يقولونَ لِي: لو فَعَلْتَ كذا لكانَ خَيْرًا!! أنا لو كنتُ عالِمًا بما يصيرُ إليه الأمرُ لفعلتُه من أول. فَرَبُّ السماواتِ والأرضِ وحدَه لاَ يَجْرِي عليه: لَوْ فَعَلْتُ كذا لكانَ أحسنَ؛ لأنه عَالِمٌ بعواقبِ الأمورِ، وما تصيرُ إليه، وَعَالِمٌ بما كانَ وما يكونُ، فلا يضعُ أمرًا إلا في موضعِه، وَمُحَالٌ عن أن ينكشفَ الغيبُ عن أن ذلك الأمرَ على خلافِ الصوابِ؛ لأنه عَالِمٌ بعاقبةِ الأمرِ، وما يؤولُ إليه، كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا.
والعَليمُ: صيغةُ مبالغةٍ؛ لأن عِلْمَ اللَّهِ (جل وعلا) محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، يعلمُ خَطَرَاتِ القلوبِ، وخائنةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصدورُ، حتى قَدَّمْنَا أنه من إحاطةِ علمِه: يعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في علمِه أنه لا يوجدُ، هو عَالِمٌ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ؛ لشدةِ إحاطةِ عِلْمِهِ بالموجوداتِ والمعدوماتِ. وقد بَيَّنَّاهُ في هذه السورةِ الكريمةِ؛ لأَنَّ أهلَ النارِ لَمَّا عَايَنُوا النارَ ورأوا الحقيقةَ وَنَدِمُوا تَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى دارِ الدنيا مرةً أُخْرَى لِيُصَدِّقُوا الرسلَ، ورَدُّهُمْ ذلك الذي تَمَنَّوْهُ: اللَّهُ عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ بأن ذلك الردَّ - الذي هو عَالِمٌ أنه لا يكونُ - صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، حيث قَالَ: ﴿وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: آية ٢٧] هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ هو عَالِمٌ أنه لَنْ يكونَ، ثم صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أَنْ لَوْ كَانَ كيف يكونُ، حيث قال بعدَه: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: آية ٢٨] والْمُتَخَلِّفُونَ عن غزوةِ تبوكَ لا يحضرونَها أبدًا؛ لِمَا سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ من تَثْبِيطِهِمْ عَنْهَا، وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عنها بإرادتِه لحكمةٍ: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ وَخُرُوجُهُمْ إلى
فقد حرمته (١)، ومن إطلاقه بمعناه الشرعي: قوله هنا: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ فهو تحريم شَرْعِيٌّ، ومن إطلاق التحريم بمعناه اللغوي في القرآن: قوله في بني إسرائيل وهم في التِّيْه، قال: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [المائدة: آية ٢٦] فإنه تحريم كوني قَدَري؛ لأن الله منعهم إياه، لا تحريم شَرْعِيّ على التحقيق، ومن إطلاق العرب التحريم على التحريم بمعنى المنع لا بمعنى الشرع: قول امرئ القيس (٢):
جَالَتْ لتَصْرَعُنِي فقُلتُ لهَا اقْصُرِي | إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ |
حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَا الكَرَى | وَأَنْ تُرْقَآ حَتَّى أُلَاقِيْكِ يَا هِنْدُ |
﴿عَلَيْكُمْ﴾ في قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ وجهان (٥):
_________
(١) انظر: المقاييس في اللغة (كتاب الحاء، باب الحاء والراء وما يثلثهما) ص (٢٥٦)، المصباح المنير (مادة: حرم) ٥١.
(٢) ديوان امرئ القيس ص (١٥٧).
(٣) البيت في الكشاف (٢/ ٦٥)، مشاهد الإنصاف ملحق في آخر الكشاف ص (٢٩)، البحر المحيط (٤/ ٣٠٥)، الدر المصون (٥/ ٣٣٥).
(٤) يعني في آية الأنعام.
(٥) انظر: القرطبي (٧/ ١٣١)، البحر المحيط، (٤/ ٢٤٩)، الدر المصون (٥/ ٢١٣).
تُبَارِي عِتاقَ النَّاجِيَاتِ وَأَتْبَعَتْ | وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ |
والعبادةُ في اصطلاحِ الشرعِ (١): هي التقربُ إلى اللهِ (جل وعلا) وإفرادُه بذلك التقربِ والعبادةِ في جميعِ ما أَمَرَ أن يُتَقَرَّبَ إليه به على سبيلِ الذلِّ والخضوعِ والمحبةِ، فلا يكفي الذلُّ والخضوعُ دونَ المحبةِ، ولا تكفي المحبةُ دونَ الذلِّ والخضوعِ، فلا بد من الجمعِ بينَ الأَمْرَيْنِ. فإن كان الذلُّ والخضوعُ دونَ محبةٍ فالذليلُ الخاضعُ قد يكونُ مُبْغِضًا كَارِهًا لِمَنْ أَذَلَّهُ وأخضعَه، وَمَنْ أَبْغَضَ رَبَّهُ وَكَرِهَهُ فهو في دركاتِ النارِ. والمحبةُ وحدَها إذا لم يكن معها خوفٌ قد يتجرأُ صاحبُها ويكونُ ذَا دلالٍ فيتجرأُ على المقامِ الأقدسِ بما لا يَنْبَغِي. فلا بدَّ أن تكونَ هناكَ محبةٌ، وأن يكونَ هناك خوفٌ وَذُلٌّ وخضوعٌ لله. وضابطُها: هي التقربُ إلى اللهِ بما أَمَرَ أن يُتَقَرَّبَ إليه به بإخلاصٍ، على النحوِ الذي شَرَعَ، فلا يرضى اللهُ أن يعبدَ بغيرِ ما شَرَعَ. فلا بد أن تكونَ بما شَرَعَ مطابقة للشرعِ، مُخلَصًا فيها لله وحدَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: آية ٥٩] ليس لكم من إِلَهٍ غيره.
قولُه هنا: ﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٩] أصلُه مبتدأٌ زِيدَتْ قَبْلَهُ (من) والمقررُ في فَنِّ الأصولِ: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ ظاهرةٌ في العمومِ، أما إذا دَخَلَتْ عليها (مِنْ) الْمَزِيدَةِ لتوكيدِ النفيِ
_________
(١) انظر: الكليات ص٥٨٣.
أن (إذا) قَدْ تَأْتِي أداة تكرار إذا دَلَّتْ قرينة على ذلك، ومنه بذلك المعنى قوله (١):
إِذَا وَجَدْتُ أُوارَ النَّارِ فِي كَبِدِي | ذَهَبْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ |
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ المَاءِ ظَاهِرَهُ | فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأَحْشَاءِ تَتَّقِدُ |
وقوله: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ﴾ كانت عادة الكفار اقتراح الآيات على رسول الله ﷺ (٢)، تارة يقترحون عليه آيات قرآنية تُتلى غير هذا القرآن، كما سيأتي في سورة يونس، وفي تفسير قوله: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: آية ١٥] وتارة تكون الآيات المقترحات آيات كونية قدرية كما في قوله: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (٩٠)﴾ وفي القراءة الأخرى (٣): ﴿حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ﴾ [الإسراء: الآيتان ٩٠، ٩١] إلى آخر الآيات المقترحات، وهي كثيرة في كلام العرب.
ومن العلماء ما ظاهر كلامه أن الآية المقترحة هنا آيات أُخر من
_________
(١) البيتان لعروة بن أُذينة. وهما في الشعر والشعراء ص٥٨٠، تاريخ ابن عساكر (٤٠/ ٢٠٥، ٢٠٦، ٢٠٧)، زاد المعاد (٤/ ٢٩)، روضة المحبين ص٤٦، زهر الآداب (١/ ١٦٧)، وفيات الأعيان (٢/ ٣٩٤)، مع شيء من الاختلاف في بعض الألفاظ.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٧) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٧١.
أضاءَ اللَّهُ به كُلَّ شيءٍ، وَكُلُّ مَنْ لاَ يَعْلَمُ أنه نورٌ وأنه حَقٌّ فإن ذلك إنما جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ عَمَاهُ؛ لأنه خُفَّاشٌ أَعْمَى، والأَعْمَى لا يرى الشمسَ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ هذا في سورةِ الرعدِ في قولِه: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾ [الرعد: آية ١٩] فَصَرَّحَ بأن الذي يَمْنَعُهُ من أن يعلمَ أنه الحقُّ إنما هو عَمَاهُ.
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ | فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (١) |
﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ في قولِه: ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ وَجْهَانِ (٢):
أحدُهما: أن المرادَ أن إطفاءَه بأفواهِهم هو تكذيبُهم به وقولُهم: إنه شِعْرٌ أو سِحْرٌ أو كهانةٌ أو أساطيرُ الأولينَ أو مكذوبٌ على اللَّهِ. فهذا إرادتُهم تكذيبُه وإبطالُه بأفواهِهم بالقولِ الكاذبِ.
وقال بعضُهم: شَبَّهَ فِعْلَهُمْ بِمَنْ رَأَى نورًا مستضيئًا مَلأَ أَقْطَارَ الدنيا وأرادَ أن ينفخَه ليطفئَه بنفخةٍ؛ لأَنَّ النفخَ يطفئُ النورَ الضعيفَ، ولا يقدرُ على النورِ العظيمِ القويِّ. كأنه شَبَّهَ إرادتَهم لإطفائِه بِمَنْ يريدُ أن ينفخَ في نورٍ عظيمٍ مَلأَ الأرضَ ليطفئَه بالنفخِ،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: ابن جرير (٤/ ٢١٣ - ٢١٤)، ابن كثير (٢/ ٣٤٩)، البحر المحيط (٥/ ٣٣).