[هود: آية ٧١] حتى إن امرأتَه لشدةِ تَعَجُّبِهَا مِنْ أنها تَلِدُ وهي عجوزٌ فانيةٌ صَرَخَتْ، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، كما قال تعالى في الذارياتِ: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: آية ٢٩] يعني: في صَيْحَةٍ وَضَجَّةٍ: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ لاستعجابِها واستغرابِها من هذا الخبرِ، وكذلك قال عنها في سورةِ هودٍ: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [هود: آية ٧٢]. أما إسماعيلُ فقد أَعْطَاهُ اللَّهُ إياه قبلَ ذلك مِنْ سُرِّيتِهِ هَاجَرَ، كما هو مشهورٌ في التاريخِ، ولم يُعْطِهِ إسماعيلَ أيضًا إلا بعدَ أن كَبِرَ وَطَعَنَ في السِّنِّ، كما نَصَّ عليه في سورةِ إبراهيمَ الخليلِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: آية ٣٩]. إِلاَّ أن وقتَ بشارتِه بإسحاقَ كان كبيرًا كِبَرًا شديدًا، وامرأتُه عجوزٌ فانيةٌ، أكبرُ مِنْ زَمَنِ إيتائِه إسماعيلَ، وإن كَانَ كبيرًا عند الْوَقْتَيْنِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [الأنعام: آية ٨٤].
وآية هودٍ هذه من النصوصِ الدالةِ على أنَّ الذبيحَ: إسماعيلُ، وليسَ بإسحاقَ؛ لأن ذلك دَلَّ عليه القرآنُ في مَوْضِعَيْنِ، وهو الصحيحُ. إلا أن الإِسْرَائِيلِيِّينَ يَحْكُونُ إسرائيلياتٍ كثيرةً في أنه إسحاقُ، اغْتَرَّ بها بعضٌ من علماءِ المسلمينَ، فَظَنَّ أنه إسحاقُ، وهو غَلَطٌ، والتحقيقُ أن الذبيحَ: إسماعيلُ، وأن آيةَ هودٍ التي ذَكَرْنَا هي دليلٌ قَوِيٌّ على ذلك، كما دَلَّتْ عليه آيةُ الصافاتِ.
أما وجهُ دلالةِ آيةِ هودٍ لأَنَّ اللَّهَ قال، وهو أصدقُ مَنْ يقولُ ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: آية ٧١] أي: وَبَشَّرْنَاهَا بِأَنَّ إسحاقَ - وهو ولدُها - يَلِدُ يعقوبَ، وهو ولدُ وَلَدِهَا، فبعدَ البشارةِ بالوحيِ الصادقِ أن إسحاقَ
نوح؟ ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: آية ٥٩] ثم قال: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا، ماذا جاءهم به؟ اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ﴾ [الأعراف: آية ٦٥]، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾ ماذا قال؟ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: آية ٧٣] ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ ماذا قال؟ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: آية ٨٥]، وهكذا على سبيل التفصيل. فالسماوات والأرض إنما قامت على أشرف كلمة، هي كلمة (لا إله إلا الله) هي التي خُلقت من أجلها الجنة والنار، وامتُحن الخلق فيها، ودخل من دخل الجنة بالعمل بها، ودخل من دخل النار بعدم العَمَلِ بها، وهي مركبة من جُزْأَين: نَفْي وإِثْبَات.
فمعنى نفيها: خَلْعُ جميع أنواع المعبودات في جميع أنواع العبادات غير خالق السماوات والأرض (جل وعلا).
ومعنى إثباتها: إفراده (جل وعلا) وحده بالعبادة التي هي التقرُّبُ إلى الله بما أمر أن يُتَقَرَّبَ إليه به على وجه الذل والخضوع والمحبة، فلا يكفي الذل والخضوع عن المحبة، ولا المحبة عن الذل والخضوع، وضابط هذا: من أراد أن يخلص هذه الكلمة لله فلينظر إلى كل شيء أمر الله أن يتقرب إليه به، وأن يتعبد به خلقه، وليخلص في هذا لله، فإنه يلقى الله مسلماً موحِّداً، وليحذر كل الحذر من أن يصرف شيئاً من حقوق الخالق للمخلوق؛ لأن مَنْ لَقِيَ الله لا يُشْرِك به شيئاً دَخَلَ الجنة، والأحاديث في ذلك في حكم المتواترة لكثرتها.
أي: وعبادتك. فالإلهُ معناه المعبودُ الذي يعبدُه خَلْقُهُ بِذُلٍّ وخضوعٍ ومحبةٍ إليه (جل وعلا). وقد قَدَّمْنَا أن إتيانَ (الفِعَالِ) بمعنَى (المفعولِ) مسموعٌ في اللغةِ وليس بِمُطَّرِدٍ، ومنه: (إله) بمعنَى: مألوه، و (كتاب) بمعنَى: مكتوبٍ، و (لباس) بمعنَى: ملبوس، و (إمام) بمعنَى: مُؤْتَمٍّ به، في أوزانٍ معروفةٍ، وهذا معنَى: ﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (١).
﴿إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: آية ٥٩] ﴿إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن لم تُفْرِدُوا رَبَّكُمْ بالعبادةِ وَتُخْلِصُوا له بالعبادةِ وتتركوا عبادةَ الأوثانِ: ﴿أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن متم على ذلك ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هو [يومُ القيامةِ، يعنى] (٢) أن مَنْ مات يعبدُ غيرَ اللهِ لَقِيَهُ العذابُ العظيمُ. والعظيمُ هنا نعتٌ لليومِ، خِلاَفًا لِمَنْ زَعَمَ أنه نعتٌ للعذابِ جُرَّ بالمجاورةِ؛ لأن مِنْ عَادَةِ العربِ أن تُنَوِّهَ بالأيامِ وتُشنِّعَهَا مع أنها ظروفٌ وأزمانٌ نَظَرًا لِمَا يَقَعُ فيها. يقولونَ: يومٌ ذُو كواكبَ، يومٌ أشنعُ، يومٌ عصيبٌ. ومنه قولُ نَبِيِّ اللهِ لوطٍ: ﴿سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: آية ٧٧] ونظيرُه قولُ الشاعرِ (٣):
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ | وقَدْ سَلَكوُكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٢) في هذا الموضع انقطع التسجيل وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٤) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
الشام كما كان يفعل سليمان، وأحي لنا قصيًا نسأله عنك هل أنت رسول أو لا؟ إلى غير ذلك من الآيات المقترحات.
وعلى أن الآية المطلوبة هنا كونية قدرية قال بعض العلماء: معنى ﴿لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا﴾ هلا اقترحتها وتَلَقَّيْتَهَا من تلقاء ربك؛ لأنك تزعم أن كل ما سألت منه يعطيك إياه. يعني فتقلب لنا الصفا ذهبًا، وتحيي لنا قصيًا نسأله عنك، إلى غير ذلك من الآيات المقترحات. وعلى هذا القول فالاجتباء هنا بمعنى تلقيها من الله مقترحة، وإجابة الله إلى ذلك. وهذا معنى قوله: ﴿لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا﴾ قل لهم يا نبي الله: ليس من شأني اختلاق الآيات التي تُقرأ وتتلى، وليس من شأني اقتراح الآيات الكونية القدرية، إنما أنا عبد مأمور أفعل كما أمرني ربي ولا أتجاوزه إلى شيء آخر.
﴿إِنَّمَا أَتَّبِعُ﴾ ما أتبع إلا ﴿مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ فهذا الذي أتلوه عليكم أوحاه ربي إلي، وهو الذي أقرأه عليكم، أما شيء آخر لم يُوح إليَّ فلا أقوله لكم ولا أقترح على ربي شيئًا. والله (جل وعلا) قد بيّن في سورة بني إسرائيل أنه إنما لم يرسله بخارق مثل خارق الرسل المتقدمة كناقة صالح ونحو ذلك أنه إن فعل ذلك كذبوا فأهلكهم، كما قال: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإسراء: آية ٥٩] لأن الله تبارك وتعالى لما اقترحوا هذه الآيات بيّن لهم هنا وفي سورة العنكبوت أنه أنزل لهم آية هي أعظم من جميع الآيات وأكبر، وهي هذا القرآن العظيم، فهذا القرآن العظيم أعظم آية من ناقة صالح، ويد موسى البيضاء، وعصاه التي تكون ثعبانًا.
ومما يدل على أنها أعظم الآيات: أنها تتردد في أسماع الخلائق إلى يوم القيامة، وأنها كلام رب العالمين الذي يعجز
﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ الضميرُ فِي قولِه: ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ فيه وجهانِ للعلماءِ (١): قال بعضُهم -وَهُوَ مَرْوِيٌّ عن ابنِ عَبَّاسٍ (٢) -: الضميرُ عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. أي: أَرْسَلَهُ بهذا الْهُدَى ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ليطلعَه على جميعِ الأديانِ فَيُبَيِّنُ لأهلِها حقيقَها من باطلِها، كما قَدَّمْنَاهُ في قولِه: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: آية ٤٨] ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [المائدة: آية ١٥] ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: آية ٩٣] وغير ذلك من الآياتِ أن النبيَّ ﷺ عَلِمَ من كتابِ اللَّهِ ما جاء في جميعِ الكتبِ المتقدمةِ.
القولُ الثانِي: - وعليه الأكثرُ - أن الضميرَ لِلدِّينِ ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ أي: ليظهرَ دِينَ الإسلامِ، أي: يُعْلِيَهُ على جميعِ الأديانِ كُلِّهَا. وهذا الإعلاءُ يدخلُ فيه إظهارُه بالحجةِ والبرهانِ، فبراهينُه قاطعةٌ، وَحُجَجُهُ ساطعةٌ لاَ شَكَّ فيه، وكتابُه محفوظٌ، فلا شيءَ يُوَازِيهِ ولاَ يُشَابِهُهُ.
قال بعضُ العلماءِ: ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ أي: يَنْصُرَهُ ويُغَلِّبَهُ على جميعِ الأديانِ، وقد وَفَّى اللَّهُ بهذا فيما مَضَى، وَسَيَفِي به - أيضًا - في المستقبلِ؛ لأن الدينَ فيما مضى ظَهَرَ على جميعِ الأديانِ، وَأَذَلَّ الدولَ الكبارَ العظيمةَ المعروفةَ، كالدولةِ الكسرويةِ، والدولةِ القيصريةِ، لم يَبْقَ منهم إلا مَنْ هو يُعْطِي الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغرٌ، أو مُسْلِمٌ، وَانْتَشَرَ في أقطارِ الدنيا من شَرْقِهَا وغربِها، وَظَهَرَ على كُلِّ الأديانِ، وَأَذَلَّ أهلَها، وسيأتِي ذلك في آخِرِ هذا الزمانِ أيضًا كما جاء في أحاديثَ صحيحةٍ كثيرةٍ أنه لا يَبْقَى في آخِرِ الزمانِ أحدٌ إلا كان
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢١٥)، القرطبي (٨/ ١٢١)، ابن كثير (٢/ ٣٤٩).
(٢) أخرجه ابن جرير (١٤/ ٢١٥) من طريق علي بن أبي طلحة.