يقولونَ: إنه اليسعُ بنُ أخطوبَ بنِ العجوزِ (١). وَاللَّهُ (جل وعلا) ذَكَرَهُ في مواضعَ من كتابِه في جملةِ الأنبياءِ.
وقولُه: ﴿وَيُونُسَ﴾ هو نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ بنُ مَتَّى، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إلى مئةِ ألفٍ أو يزيدونَ، في بَلَدِ (نِيْنَوَى) من بلادِ الموصلِ. وقصتُه مشهورةٌ، ذَكَرَهَا اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه. أرسلَه اللَّهُ إلى مئةِ ألفٍ أو يزيدونَ، ولم يُرْسِلِ اللَّهُ نَبِيًّا لقومٍ إلا كَذَّبُوهُ وَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بعذابٍ مُسْتَأْصِلٍ، وَلَمْ يُسْتَثْنَ من هذا أحدٌ إلا الجماعة الذين أُرْسِلَ إليهم نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ بنُ مَتَّى (عليه وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ). سَيَأْتِيكُمْ في مواضعَ في الصافاتِ، وفي القلمِ، وغيرِها: أن نَبِيَّ اللَّهِ يونسَ لَمَّا كَذَّبَهُ قومُه وَعَدَهُمْ بالهلاكِ، وأن العذابَ يَنْزِلُ عليهم، وَخَرَجَ عنهم، وسافرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يأذنَ لَهُ رَبُّهُ، كأنه ضَجِرَ منهم وَعَجِلَ. وذلك الضجرُ والعجلةُ هو الذي نَهَى اللَّهُ عنه نَبِيَّنَا محمدًا - ﷺ - في سورةِ القلمِ، مُؤَدِّبًا له بِالتَّأَنِّي والحَمْلِ والصبرِ، قَالَ: ﴿وَلاَ تَكُنْ كصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ يَعْنِي يونسَ بنَ مَتَّى ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: آية ٤٨] حَيْثُ ضَجِرَ وَعَجِلَ.
زَعَمَ بعضُ المفسرين أنه كان شَرْعُهُمْ ونظامُهم أَنْ مَنْ جُرِّبَ عليه الكذبُ أنهم يقتلونَه. هكذا زَعَمُوا، وأن نَبِيَّ اللَّهِ يونسَ وَعَدَهُمْ بالعذابِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) جَاءَهُمْ بالعذابِ، فَلَمَّا أَظَلَّهُمْ وَعَايَنُوا أوائلَه خَافُوا خَوْفًا عظيمًا، وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ إنابةً صادقةً، وتوبةً عظيمةً، وَضَجُّوا جَمِيعُهُمْ، وَفَرَّقُوا بينَ الأمهاتِ والأولادِ من الآدَمِيِّينَ
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١١/ ٥١٠)، البداية والنهاية (٢/ ٤) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٢٨/ ٣٧).
لأن الحور هو الهلكة معنى، والمقصود: في بير هلكة وقع، و (لا) زائدة، والكلام هنا ليس فيه معنى الجحد.
وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) لتقوية الكلام في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد قول ساعدة بن جؤية الهذلي (١):
أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ... غَابٌ تَسَنَّمَهُ قِرَابٌ مُثْقَبُ
يعني: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ، كما هو معروف. وأنْشَدَ بعضهم له قول الآخر (٢):
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ... وَكَادَ صَميمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ
أي: كاد يتقطع. قالوا: هذا أُسلوب معروف، و (لا) هنا صلة دل المقام عليها، وهي تفيد تقوية الكلام، والنهي عن الشرك. هذا قول بعض العلماء.
وقال بعض العلماء: (أنْ) هنا تفسيرية. وهو التحقيق، وهي مُفَسَّرَةٌ لـ ﴿حَرَّمَ﴾ (٣)، وإذا فسرنا التحريم كان ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ﴾ هو معنى التحريم؛ لأن ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ﴾ هو معنى تحريم الشرك. وضابط (أنْ) التفسيرية عند علماء العربية: أن تتقدمها جملة فيها معنى القول وليس فيها حروف القول (٤)، فتكون (أَنْ) مفسرة للتحريم، وما بعدها هو تفسير التحريم؛ لأن النهي عن الشرك هو معنى تحريم الشرك بعينه،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٩) من هذه السورة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٠٩) من هذه السورة، وفيه: «وكاد ضمير... ».
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٤٩)، الدر المصون (٥/ ٢١٣).
(٤) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٥٠)، الدر المصون (٥/ ٢١٣)، الكليات ص ١٩٣، معجم الإعراب والإملاء ص ٨٨.
السماءَ مِدْرَارًا، وَفَجَّرَ عيونَ الأرضِ، فَالْتَقَى الماءُ من أعلى وأسفلَ، حتى صارَ طُوفَانًا غَطَّى على الجبالِ. والدليلُ على أنه غَمَرَ الجبالَ: أن نوحًا لَمَّا قال لولدِه: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾ وقال الولدُ: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ أجابَه نوحٌ فقال: ﴿لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ [هود: الآيتان ٤٢، ٤٣] فَدَلَّ على أنه ليسَ هناك معتصمٌ في الجبالِ؛ وَلِذَا قال تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢)﴾ [القمر: الآيات ١٠ - ١٢] فصارَ طوفانًا جارفًا أَهْلَكَ جميعَ مَنْ على وجهِ الأرضِ، مِنْ كُلِّ ما هو حَيٌّ إلا مَنْ كان في تلك السفينةِ، كما قال تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ [العنكبوت: آية ١٥] وأمر اللهُ نَبِيَّهُ نوحًا بأن يجعلَ تلك السفينةَ - ويجعلَها بالنجارةِ - وكان ينجرها والأرضُ يبَس، وهم يضحكونَ منه ويسخرونَ ويقولونَ: كنتَ نَبِيًّا فصرتَ نَجَّارًا! وهو يقولُ لهم: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [هود: الآيتان ٣٨، ٣٩] فَلَمَّا قَرُبَ الوعدُ المحددُ لإهلاكِهم قيلَ لنوحٍ: ارْكَبْ في السفينةِ وَاحْمِلْ فيها أهلكَ ومن آمَنَ مَعَكَ، ثم قال: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [هود: آية ٤٠] وَأَمَرَ أن يأخذَ من كُلِّ شيءٍ من جميعِ الحيواناتِ زَوْجَيْنِ.
أي: ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ لأن جميعَ مَنْ على وجهِ الأرضِ سيهلكه الطوفانُ، ولن يبقى إلا مَنْ فِي تلك السفينةِ، فيكونُ كُلُّ جنسٍ من أنواعِ الحيواناتِ موجود معه منه ذَكَرٌ وأنثى ليتناسلَ ذلك الذكرُ بتلك الأنثى وينشأَ منهما ذلك النوعُ من أنواعِ الحيواناتِ كما يأتي في قولِه: ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [هود: آية ٤٠] وفي القراءةِ
إذا مِتُّ فادفنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ... تُرَوِّي عِظَامي بالمَمَاتِ عُروقُها...

ولا تَدْفننّي بالفَلاةِ فإنَّني أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ ألاَّ أَذُوقُها
فإنه يعلم أنه إذا مات ليس شاربًا الخمر بعد موته، فمعنى (أخاف) أي: أعلم. كما هو ظاهر. وهذا معنى قوله: ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾.
﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ﴾ ذِكْرَيْن، أمَّا الذكر النفساني فهذا الذي يكون في نفسك لا يعلمه منك إلا ربك، من أن تتفكر في عَظَمِتِه وسلطانه وجبروته وصفاته وعقابه وثوابه متضرِّعًا خائفًا منه (جلّ وعلا). وهذا النوع من الذكر القلبي عظيم جدًّا.
الثاني: ذكر لساني، وقد علمهم (جلّ وعلا) آداب الذكر اللساني، وأنهم لا يرفعوا صوته جدًّا ولا يُخافتوا به جدًّا، كما قال: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: آية ١١٠] والمخافتة: الإسرار الشديد. وقال هنا: ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ﴾ أي: واذكر ربك بالقول دون الجهر، لا تجهر به وترفع صوتك جدًّا؛ لأن رفع الصوت الكثير بالدعاء وبالأذكار لا ينبغي. والله (جلّ وعلا) يُعَلِّمُ نبيَّه ﷺ أن لا يرفع صوته به جدًّا ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ يعني: دون الجهر وفوق الإسرار: المخافتة، لا تجعله سرًّا جدًّا كالمخافتة، ولا تجعله جهرًا جدًّا بل سبيلاً بين ذلك كما قال: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: آية ١١٠].
وقوله: ﴿بِالْغُدُوِّ﴾ الغدو: قال بعض العلماء: هو مفرد مصدر غدا غدوًا. وقال بعض العلماء: هو جمع (غُدوة) (١).
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٥٥٢).
ودلالةٌ، وهو يصحُّ في كُلِّ شيءٍ يَجْلُو الجهالةَ والإجمالَ.
وهذا هو التحقيقُ -إن شاء الله- أن نصابَ الذهبِ عشرونَ مِثْقَالاً، وأن الواجبَ فيها ربعُ العشرِ، وأنه لا وَقْصَ فيه فما زَادَ فَبِحِسَابِهِ.
فإن كان عندَه بعضُ النصابِ من الذهبِ وبعضُه من الفضةِ فهل يضمُّ الفضةَ للذهبِ (١)؟ ليس في ذلك نَصٌّ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأنظارُ العلماءِ اختلفت فيه، فَذَهَبَ بعضُ العلماءِ إلى أنه لا يُضَمُّ الذهبُ إلى الفضةِ ولا الفضةُ إلى الذهبِ في الزكاةِ، وتوقفَ في هذا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ في روايةِ الأثرمِ، وَقَطَعَ في روايةِ حنبلٍ أنه لاَ يُضَمُّ أحدُهما إلى الآخَرِ (٢). فَمَنْ كانت عنده عشرةُ مثاقيلَ ومائةُ درهمٍ لا زكاةَ عليه على هذا، وبهذا قال الإمامُ الشافعيُّ وأكثرُ أصحابِه في طائفةٍ كثيرةٍ من العلماءِ. وقال مالكُ بنُ أنسٍ وأصحابُه: يُضَمُّ الذهبُ إلى الفضةِ فيكونُ النصابُ منهما معًا. وهو مَرْوِيٌّ عن أبي حنيفةَ (رحمة الله) على الجميعِ. وعلى هذا فلو كان عنده مائةُ درهمٍ وعشرةُ دنانيرَ وَجَبَتْ عليه الزكاةُ، فَأَخْرَجَ من الدنانيرِ ربعَ عُشْرِهَا، ومن الدراهمِ ربعَ عُشْرِهَا وهكذا.
وَاعْلَمُوا أن مِنْ توابعِ هذه المسألةِ أشياء اختلفَ فيها العلماءُ سنذكرُ طرفًا منها، من ذلك: إذا كان الذهبُ والفضةُ حُلِيًّا مَصُوغًا مُبَاحًا تتزينُ به النساءُ، هل تجبُ فيه الزكاةُ أو لا (٣)؟ اختلف فيه
_________
(١) انظر: الاستذكار (٩/ ٤٠)، المبسوط (٢/ ١٩٢)، المجموع (٦/ ١٨)، المغني (٤/ ٢١٠)، الأضواء (٢/ ٤٤٤).
(٢) انظر: المغني (٤/ ٢١٠).
(٣) انظر: الاستذكار (٩/ ٦٦)، المبسوط (٢/ ١٩٢)، المجموع (٦/ ٣٢)، المغني (٤/ ٢٢٠)، الأضواء (٢/ ٤٤٥).


الصفحة التالية
Icon