وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)} [الشعراء: الآبتان ٢٣، ٢٤] قالوا: وَاللَّهُ فَضَّلَهُمْ على العالمين، والتفضيلُ بَيْنَ الرُّسُلِ والملائكةِ معروفٌ عِنْدَ العلماءِ (١)، ولم يَقُمْ عليه دليلٌ قَاطِعٌ، ولا حاجةَ لنا فيه. لو لَقِيَ الإنسانُ رَبَّهُ وهو لم يَبْحَثْ في التفضيلِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَسْأَلْهُ عن ذلك، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: آية ٨٧] قولُه: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ معطوفٌ على معمولِ (هَدَيْنَا) أي: وَهَدَيْنَا أيضًا مِنْ آبائِهم وذرياتِهم. وَدَلَّ بـ (مِنْ) على أن مفعولَ (الهدايةِ) البعضُ. أي: وَهَدَيْنَا أيضًا بعضَ ذرياتِهم. ﴿وَإِخْوَانِهِمْ﴾ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ هؤلاءِ الرسلَ الكرامَ ذَكَرَ أنه هَدَى بعضَ أصولِهم وفروعِهم، وبعضَ حواشِيهم. فبعضُ الأصولِ كآدمَ وإدريسَ، وبعضُ الفروعِ كأولادِهم من الطَّيِّبِينَ، وبعضُ الحواشِي كإخوةِ يوسفَ وَمَنْ جَرَى مَجْرَى ذلك. أي: وَهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرياتِهم وإخوانِهم.
﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ أي: اجْتَبَيْنَا هؤلاءِ الرسلَ الْمَذْكُورِينَ. والاجتباءُ: الاصطفاءُ والاختيارُ. أي: اخْتَرْنَاهُمْ وَاصْطَفَيْنَاهُمْ ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. أي: وَفَّقْنَاهُمْ وَأَرْشَدْنَاهُمْ إلى صراطٍ مستقيمٍ. والصراطُ في لغةِ العربِ: الطريقُ الواضحُ (٢).
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من هذه السورة.
(٢) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
بر الوالدين دائماً مع توحيده ومن كان منا عنده والد أو والدة فَلْيَسْعَ كل السعي في أن يبره، ولْيَعْلَم أن الكبير لا يتحمل على أذاه إلا من عنده تقوى؛ لأنه إذا شاب وكبرت سنه كان لا يُتَحَمَّل؛ لأنه يكثر سؤاله عن الأشياء التي لا تعنيه، وتكثر أغراضه فيما لا تعنيه، وهذا يستلزم صبراً، فعلى الولد أن يَتَحَمَّلَ، ويُثَابِر على أن يفتيه في كل ما سأل مما لا يعنيه، ويصبر على جميع أذاه، ويحسن إليه، ويبرّه حتى يَمُوت وهو عنه راضٍ؛ لأن النبي - ﷺ - جاءت عنه الأحاديث التي لا تُحْصَى في الترغيب في بر الوالدين واسْتِجْلَابِهِ الجنة، والترهيب من عقوق الوالدين، وما فيه من العقوبات، ونحن لا نحتاج أن نُنَوِّه بشيء من هذا بعد أن نرى خالق السماوات والأرض يجعل بر الوالدين مقروناً بتوحيده في عبادته جل وعلا.
فعلينا جميعاً معاشر المسلمين أن نعتبر بهذا، وأن نبر أمهاتنا وآباءنا، ونصبر على أذاهما، ولا نُغلظ لهما القول، ولا نمنعهما من شيء يحبانه، بل نسارع في مرضاتهما بحسب الإمكان، ويكفيكم على هذا دليلاً هو نص القرآن العظيم على أن الوالد يبره ولده وإن كان الوالد كافراً؛ لأن آية العنكبوت نزلت في أُميمة والدة سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه وأرضاه) (١)، فإنه لما أسلم حلفت أمه أُميمة أن لا تأكل، ولا تشرب، ولا تدخل الظل حتى يرجع عن دين الإسلام، فَمَكَثَتْ في الشمس ما شاء الله حتى خَرَّت مغشيّاً عليها، وجاءوه وقالوا له: أمك ستموت! فجاءها ثم قال لها: والله لو كانت
_________
(١) أمه هي حمنة بنت سفيان بن أُمية بن عبد شمس. انظر: الآحاد والمثاني (١/ ١٦٦)، (مختصر تاريخ دمشق لابن منظور) (٩/ ٢٥٣)، السير (١/ ٩٦)، فتح الباري (٧/ ٨٤). وفي الآحاد والمثاني: «حمنة بنت أسد».
كُلَّمَا بلغَ شيئًا منها رَفَعَتِ الولدَ، حتى بلغ حلقومَها، رَفَعَتْ يدَها بالولدِ حتى أغرقَ اللهُ الجميعَ (١)، وَدَمَّرَ اللهُ الجميعَ. واعتذرَ نبيُّ اللهِ نوحٌ عن دعائِه عليهم - مع أن اللَّهَ أَعْلَمَهُ أنهم خبثاءُ ليس فيهم خيرٌ - قال يقولُ لِرَبِّهِ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠)﴾ إلى آخِرِ ما ذُكِرَ. [نوح: الآيات ٥ - ١٠] فالقصةُ اخْتُصِرَتْ هنا في سورةِ الأعرافِ وَبَسَطَهَا اللهُ في سورٍ أخرى متعددةٍ.
ولذا قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ﴾ [الأعراف: آية ٦٤] أي: أنجيناه هو والذين معَه في الفلكِ، وهم قليلٌ؛ لأن اللهَ قال: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [هود: آية ٤٠].
وبعضُ المؤرخين يقولونَ: هم أربعونَ رجلاً وأربعونَ امرأةً، هم ثمانونَ نَفْسًا. وبعضُهم يقولُ: هم تسعةُ أَنْفُسٍ. واللهُ تعالى أعلمُ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ أنهم قليلٌ حيث قال: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ وقال: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: آية ٣٦] فصارت تلك السفينةُ تجري بهم تتلاطمُ عليها الأمواجُ كما قال تعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ [هود: آية ٤٢] الأمواجُ كأنها الجبالُ، وهذا يدلُّ على عِظَمِ الطوفانِ وارتفاعِه فوقَ الأرضِ حيث شَبَّهَ أمواجَه بالجبالِ كما قال: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ فأهلكهم اللهُ وَدَمَّرَهُمْ، وَاسْتَوَتِ السفينةُ على الْجُودِيِّ ثُمَّ لَمَّا قَضَى اللهُ أَمْرَهُ: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: آية ٤٤] فَلَمَّا أَرْسَلَ اللهُ
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ١١٣ - ١١٤).
لا تنبغي، والله (جل وعلا) لا يليق به شيء من ذلك، وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾.
﴿وَيُسَبِّحُونَهُ﴾ جلّ وعلا. التسبيح في لغة العرب: معناه الإبعاد عن السوء، فسبحتُ الشيء معناه: أبعدته عن السوء.
وهو في اصطلاح الشرع: تنزيه رب العالمين (جل وعلا) عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ سجود تواضع وتذلل وخضوع سبحانه وتعالى.
فإذا كان ملائكته المقربون مع عظمهم ومكانتهم عنده لا يستكبرون عن عبادته وينزهونه ويخضعون ويتذللون له فكيف بنا معاشر بني آدم؟!
وَأَبَى الاحتجاجَ به جماعةٌ آخرونَ (١). وقياسُ العكسِ قد نَبَّهَ عليه النبيُّ ﷺ في الحديثِ الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ؛ لأنه ﷺ لَمَّا قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ أَجْرٌ» قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، أيأتِي أحدُنا شهوتَه وله فيها أَجْرٌ؟ قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟» (٢) فهذا قياسُ عكسٍ، وهو إعطاءُ حكمٍ عكسَ حكمٍ لتعاكسِهما في العلةِ (٣).
قالوا: وكذلك هنا في الْحُلِيِّ المباحِ، فإن العروضَ لا تجبُ الزكاةُ في عَيْنِهَا، فإذا كانت للتجارةِ وَجَبَتِ الزكاةُ في عينِها، عكسَ الذهبِ والفضةِ، فإن الزكاةَ في عينِها، فإذا انقطعَ عنها اسمُ النماءِ والتجارةِ صَارَتْ لاَ زكاةَ فيها، من قياسِ العكسِ.
ومن أمثلةِ قياسِ العكسِ عندَ المالكيةِ مِمَّا اختلفوا مع غيرِهم في القيءِ: هل ينقضُ الوضوءَ أو لا؟ قالوا: لا ينقضُ الوضوءَ كثيرُ القيءِ، قياسًا على قليلِ القيءِ، عكسَ البولِ، فإنه لَمَّا انتفضَ الوضوءُ بقليلِه انتقضَ بكثيرِه. ومن أمثلةِ قياسِ العكسِ عندَ الحنفيةِ قولُهم: لاَ قصاصَ في القتلِ بكبيرِ الْمُثَقَّلِ، كعمودِ الحديدِ والصخرةِ، قياسًا على صغيرِ الْمُثَقَّلِ، كالقضيبِ الذي لا قصاصَ في الضربِ به، عكسَ الْمُحَدَّدِ، فإنه لَمَّا وَجَبَ القصاصُ في قليلِه وجبَ في كثيرِه. هذا هو غالبُ حجةِ أهلِ هذا القولِ الذين قالوا: لا زكاةَ في الْحُلِيِّ.
_________
(١) انظر: شرح الكوكب المنير (٤/ ٢١٩)، وانظر الكلام على هذا القياس مع الأمثلة والتطبيقات المذكورة في الأضواء (٢/ ٤٤٩ - ٤٥٠).
(٢) مسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع معروف، حديت رقم: (١٠٠٦) (٢/ ٦٩٧) من حديث أبي ذر (رضي الله عنه).
(٣) انظر: الأضواء (٢/ ٤٤٩).