النحلِ أن ذلك القولَ الموعودَ به في المستقبلِ أنه وَقَعَ فعلاً في قولِه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ الآية. [النحل: آية ٣٥] فهذا دَلَّ على أن النحلَ بعدَ الأنعامِ. والمائدةَ والبقرةَ بعدَها بِلاَ نِزَاعٍ. فَتَبَيَّنَ أن المطلقَ يُحْمَلُ على المقيدِ، ولو كان المقيدُ سابقًا نُزُولاً. هذا هو المعروفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
أما إذا اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا واختلفَ سببُهما: فكثيرٌ من العلماءِ - منهم أكثرُ الشافعيةِ والحنابلةِ وجماعةٌ مِنَ المالكيةِ - أن المطلقَ يُحْمَلُ على المقيدِ في هذه.
ومثالُ ما اتَّحَدَ حُكْمُهُ واختلفَ سَبَبُهُ: قولُه (جل وعلا) في كفارةِ القتلِ خَطَأً: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: آية ٩٢] فَقَيَّدَ الرقبةَ بالإيمانِ، وَأَطْلَقَهَا عن قيدِ الإيمانِ في كفارةِ اليمينِ، وكفارةُ الظهارِ حيثُ قال في كفارةِ اليمينِ في سورةِ المائدةِ: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة: آية ٨٩] وَلَمْ يَقُلْ: مؤمنةٍ. وقال في الظهارِ في سورةِ المجادلةِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّنْ قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: آية ٣] ولم يَقُلْ: مؤمنةٍ. فالحكمُ هنا واحدٌ، وهو التكفيرُ بتحريرِ رقبةٍ، والسببُ مختلفٌ؛ لأَنَّ الْمُقَيَّدَ سببُه: القتلُ خَطَأً، والمطلقُ سببُه: إما حِنْثٌ في يمينٍ، وإما ظهارٌ. وأكثرُ العلماءِ من الشافعيةِ والمالكيةِ والحنابلةِ يقولونَ: يُحْمَلُ المطلقُ هنا على المقيدِ، فَيُشْتَرَطُ في كفارةِ الظهارِ وكفارةِ اليمينِ الإيمانُ. خِلاَفًا للإمامِ أَبِي حنيفةَ - رحمةُ اللَّهِ عَلَى الجميعِ - قال في مثلِ هذه: لاَ يُحْمَلُ، ولو أَعْتَقَ الحانثُ في اليمينِ أو المظاهرُ رقبةً غيرَ مؤمنةٍ لأَجْزَأَتْهُ؛ لأن القيدَ في كفارةِ القتلِ خطأً، وهذه مُطْلَقَةٌ.
الزواج من غير الأكفاء، هكذا زعمهم الفاسد! وقد صح عن النبيِّ - ﷺ - من حديث ابن مسعود أن النبي - ﷺ - سُئل: أي الذنب أعظم؟ قال: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» قيل: ثم أي؟ قال: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قال: ثم أي؟ قال: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» (١). وهذا مأخوذ من قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ فالحديث كأنه مطابق لآية الفرقان، ثم إن الله قال هنا: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ كأنه يقول لهم: يا سفهاء العقول، يا مجانين، تقتلون أفلاذ أكبادكم خوفاً من الفقر؟! فرزقهم علينا، نحن نرزقكم ونرزقهم، ورزق الجميع علينا، قال هنا: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ لأنهم فقراء في الحين حيث قال: ﴿مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ أي: من فقر واقع، وقال هناك لما أرادوا أن يقتلوهم من خشية فقر مستقبل: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ﴾ بدأ بالأولاد ﴿وَإِيَّاكُم﴾ [الإسراء: الآية ٣١].
وهذه الآيات تدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يستثقل كثرة أولاده خوفاً من الجوع والفقر؛ لأن خالق السماوات والأرض يرزق الجميع، وهذه من أوضح الآيات على أن ما يَتَلَاعَب به الشيطان على المتسمين باسم الإسلام مما يسمونه (تحديد النسل) وأن يمتنعوا من أن تكثر أولادهم، أن هذا جهل واقتفاء -في الجملة- للجاهلية
_________
(١) أخرجه البخاري في التفسير، باب قول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حديث رقم: (٤٤٧٧)، (٨/ ١٦٣)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم: (٤٧٦١، ٦٠٠١، ٦٨١١، ٦٨٦١، ٧٥٢٠، ٧٥٣٢)، ومسلم في الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده، حديث رقم: (٨٦)، (١/ ٩٠).
التجددَ والحدوثَ قال: ثاقلٌ. ومن هذا المعنَى قولُ قيسِ بنِ الخطيمِ لَمَّا قال (١):

أَبْلِغْ خِدَاشًا أَنَّنِي مَيِّتٌ كُلُّ امْرِئٍ ذِي حَسَبٍ مَائِتُ
فلما أراد التجددَ والحدوثَ قال: (مائت). وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ يَكْفِينَا منه ما ذَكَرْنَا الآنَ. والشاهدُ أَنَّ قراءةُ الحجةِ من القراءِ: ﴿قَوْمًا عَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٦٤] جمعُ تصحيحٍ لِلْعَمِيِّ على وزنِ (فَعِل) صفةٌ مشبهةٌ من عَمِيَ يعمى فهو عَمِيٌّ إذا كان أَعْمَى القلبِ. وأن قراءةَ: (عامين) قراءةٌ شاذةٌ لا تجوزُ القراءةُ بها وإن كان مثلُها يجوزُ لغةً إذا أريدَ التجددُ والحدوثُ، وما كُلُّ ما يجوزُ لغةً يجوزُ قراءةً؛ لأن القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٦٤] والعياذُ بالله؛ لأن اللَّهَ يُعْمِي بصائرَ الكفارِ حتى يهلكوا: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ [الكهف: آية ٥٧] ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: آية ٤٦] وصرَّح في سورةِ الرعدِ بأن جميعَ الذين يعرفونَ حَقِّيَّةَ هذا القرآنِ أنهم لم يمنعهم من ذلك إلا عَمَى بصائرِهم - والعياذُ بالله - والعينُ العمياءُ لا يمكنُ أن ترى الشمسَ ولو كانت في رابعةِ النهارِ.
.............................. إِذْ لاَ تَرَى الشَّمْسَ عَيْنٌ تَشْتَكِي الْعَوَرَا (٢)
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ فَلاَ غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ (٣)
_________
(١) البيت في ديوانه ص٢١١.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
الحارث بن الصمة، وخوَّات بن جبير (رضي الله عن الجميع) أصابهما مرض فردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم الحارث بن حاطب رده النبي ﷺ إلى قباء ليكون على بَنِي عمرو بن عوف حتى يرجع صلى الله عليه وسلم، وعاصم بن عدي العجْلاني خلّفه النبيّ ﷺ على العوالي.
والتحقيق الذي عليه الجمهور: أنها نزلت في اختلاف الصحابة في غنائم بدر؛ ولذا قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ﴾ [الأنفال: الآية ١] الأنفال: جمع نَفَل -بفتحتين- وأصل النفل الزيادة، فكل زائد يُسمى نَفَلاً، ومنه قيل للزائد على الواجبات: نفل. وإنما سُميت المغانم أنفالاً؛ لأن الله زادها من الحلال لهذه الأمة، لم تكن تحل لمن قبلها. والنَّفَل: المغنم، والأنفال: المغانم. وهذا معروف في كلام العرب (١)، وقد نزل به القرآن، ومن إطلاق النَفَل على المغنم قول لبيد بن ربيعة (٢):
إِنَّ تَقْوى ربِّنَا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وعَجَلْ
يعني: تقوى الله خير غنيمة يغتنمها الإنسان في حياته، ومن إطلاق الأنفال على المغانم قول عنترة (٣):
إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الوَغَى نُروي القَنا ونَعفّ عند تَقَاسُمِ الأنْفَالِ
أي: قسم المغانم كما هو معروف. قل لهم يا نبي الله مجيبًا عن سؤالهم: الأنفال -الغنائم- أي: وعلى الأخص غنائم بدر هذه ﴿لِلَّهِ﴾؛ لأنه هو مالكها الذي أقْدَرَكُمْ على أخْذِهَا، المتصرف فيها
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٦١)، القرطبي (٧/ ٣٦١).
(٢) البيت في ابن جرير (١٣/ ٣٦٦)، الكامل للمبرد (٣/ ١٣٥١).
(٣) ديوانه ص١٠٧.
«فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» (١) فلا ينبغِي للإنسانِ إلا أن يزكيَ حُلِيَّ امرأتِه وبناتِه للخروجِ من عهدةِ التكليفِ؛ لأن مَنْ زَكَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا منه بلا نزاعٍ، وَمَنْ [لم يُزَكِّهِ] (٢) كان في قيلٍ وقال، جماعةٌ يقولونَ: لاَ عليكَ، وجماعة يقولونَ: إن زكاةَ الحليِّ واجبٌ.
ومما يدخلُ تحتَ هذه المسألةِ: زكاةُ العروضِ الْمُعَدَّةِ للبيعِ والشراءِ (٣). أَجْمَعَ عامةُ علماءِ المسلمينَ على أن عروضَ التجارةِ
_________
(١) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه. حديث رقم: (٥٢) (١/ ١٢٦). وأخرجه في موضع آخر برقم: (٢٠٥١)، ومسلم في المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات. حديث رقم: (١٥٩٩) (٣/ ١٢١٩).
(٢) في الأصل: «زكاة». وهو سبق لسان.
(٣) انظر: المبسوط (٢/ ١٩٠)، المحلى (٦/ ١١٤)، المجموع (٦/ ٤٧)، المغني (٤/ ٢٤٩ - ٢٦٢)، الموسوعة الفقهية (٢٣/ ٢٦٨)، الأضواء (٢/ ٤٥٧).


الصفحة التالية
Icon