لليمينِ من التمتعِ؛ لأَنَّ الظهارَ واليمينَ كِلاَهُمَا كفارةٌ، والتمتعُ أبعدُ منهما.
ومثالُ ما لم يَكُنْ أقربَ لواحدٍ منهما: أن اللَّهَ قَيَّدَ صومَ الظهارِ بالتتابعِ، وَقيَّدَ صومَ التمتعِ بالتفريقِ، وَأَطْلَقَ قضاءَ رمضانَ، ولم يُقَيِّدْهُ بتتابعٍ ولاَ تفريقٍ قال: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: آية ١٨٤] ولم يُقَيِّدْ قضاءَ صومِ رمضانَ الفائتِ بمرضٍ أو سَفَرٍ، لم يُقَيِّدْهُ بتتابعٍ ولا تفريقٍ، حيث قال: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، من غيرِ أن يقولَ: متتابعاتٍ، ولا متفرقاتٍ، مع أن صومَ الظهارِ مقيدٌ بالتتابعِ. وصومَ التمتعِ مُقَيَّدٌ بالتفريقِ. فنقولُ: قضاءُ رمضانَ الذي هو المطلقُ عن قيدِ التتابعِ أو قيدِ التفريقِ ليس أقربَ إلى الظهارِ ولاَ إلى التمتعِ، فليس بأقربَ لهذا وهذا، فلا نُقَيِّدُهُ بقيدِ التفريقِ ولا نُقَيِّدُهُ بقيدِ التتابعِ، فَيَبْقَى مُطْلَقًا، مَنْ شَاءَ تَابَعَهُ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، إلا أن جماعةً من العلماءِ قالوا: يُنْدَبُ تَتَابُعُهُ. وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ.
يقولُ اللَّهُ جل وعلا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: آية ٨٩] قَرَأَهُ أكثرُ القراءِ ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ بالإدغامِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ: ﴿والنبؤة﴾ بتحقيقِ الهمزةِ (١).
الإشارةُ في قولِه ﴿أُوْلَئِكَ﴾ إلى الأنبياءِ الكرامِ الْمَذْكُورِينَ في قولِه: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ﴾
_________
(١) انظر: السبعة لابن مجاهد (١٥٧ - ١٥٨)، الإقناع لابن الباذش (١/ ٤٠٣)، النشر (١/ ٣٨٣)، الموضح لابن أبي مريم (١/ ٢٧٨)، الكشف لمكي (١/ ٢٤٣ - ٢٤٥)، إتحاف فضلاء البشر (١/ ٣٩٥ - ٣٦٠).
والرزق عند الجمهور: هو ما رزقه الله للإنسان، سواء كان حلالاً أو حراماً (١). فالله يرزق الإنسان بالحلال الطيب الهنيء، ويرزقه بالحرام، ثم يؤاخذه عليه، خلافاً للمعتزلة القائلين: إِنَّ الرزق من الله إنما هو الحلال، وإن الحرام لا يُسمى رزقاً؛ لأن العبد أخذه بمشيئته لا بمشيئة الله، كما كنا نقرر ونوضح، وبَحْثُ المتكلمين في الرزق هل يختص بالحلال أو الحلال والحرام معروف ومن يخصه بالحلال فهو مبني على مذهب الاعتزال؛ لأن الله (تبارك وتعالى) كما يشاء من العباد أن يقعوا في المعاصي وتذهب إرادتهم ومشيئتهم إلى المعاصي، كذلك إلى أن يرتزقوا بالحرام فذلك بمشيئته وجّه قدرتهم ومشيئتهم إليه، وهو مؤاخذهم عليه بأعمالهم، وكل مُيَسَّر لما خُلق له. وهذا معنى قوله: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾.
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ هذا من وصية محمد - ﷺ - التي لم يُفك عنها خاتمه هي هي كما أُنزلت مما أوصى به - ﷺ - مبلغاً تلك الوصية عن الله نهي جميع الخلائق عن أن يقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقوله في هذه الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ﴾ فيه سر عظيم، وتعليم كبير؛ لأنه لم يقل: وَلَا تفعلوا الفَوَاحِش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ لم ينه عن فعلها فحسب، بل نهى عن قربانها؛ لأن من قرب من الشيء قد يقع فيه، والراتع حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه، فبيَّن في هذه الآية أن الفواحش -وسَنُبَيِّن معناها- أن الإنسان مَنْهِيٌّ عن أن يقربها؛ لأن
_________
(١) انظر: مجموع الفتاوى (٨/ ١٣٢، ٥٤١ - ٥٤٦).
منهم يكونُ مئةَ ذراعٍ. وعلى كُلِّ حالٍ فَهُمْ من أَشَدِّ الناسِ قوةً كما قال اللَّهُ عنهم: ﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت: آية ٢٥] وهم قبيلةُ إرمَ المذكورةُ في القرآنِ؛ لأن عادَ بن إرم، وقيل: ابنُ عوص بن إرم. فهو من أولادِ إرمَ. و (إرم) اسمُ رجلٍ تُسَمَّى به القبيلةُ، وعادٌ من ذريتِه؛ وَلِذَا قال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦)﴾ ثم أَبْدَلَ منها فقال: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ (٨)﴾ [الفجر: الآيات ٦ - ٨].
قولُه: ﴿لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ﴾ يدلُّ على عظمةِ أبدانِهم وشدةِ طُولِهِمْ وبدانتِهم وقوتِهم كما هو معروفٌ. أرسل اللهُ إلى هذه القبيلةِ العاتيةِ الشديدةِ الْقُوَى والبطشِ أرسلَ إليهم أخاهُم هودًا - عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ - وكان نَبِيُّ اللهِ هود عربيَّ اللسانِ، وإنما مُنِعَ من الصرفِ (١) قال بعضُهم: لأنه عربيٌّ، والعجميُّ إذا كان علمًا على ثلاثة حروف وسطها ساكنٌ يكون مصروفًا كما هو معروفٌ، كما صُرِفَ نوحٌ ولوطٌ وهما علمانِ أعجميانِ كما هو معروفٌ (٢).
ويزعمونَ أن هودَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ رباحٍ من ذريةِ إرمَ من سامِ بنِ نوحٍ (٣). هو من نفسِ القبيلةِ، كما قال: ﴿أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: آية ٦٥] خِلاَفًا لِمَنْ زَعَمَ أن أصلَه ليس منهم، وأن (أخاهم) صاحبَهم. والتحقيقُ أنه منهم، وأنه أخوهم ومن قبيلتهم كما يأتي في قولِه: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٦٩] فَبَيَّنَ أنه منهم؛ وَلِذَا قال هنا: ﴿أَخَاهُمْ هُودًا﴾ بعثَ اللهُ إليهم
_________
(١) «هود» غير ممنوع من الصرف، بل هو مصروف؛ لأنه اسم رجل عربي، وكذا على القول بأنه أعجمي لكونه علمًا على ثلاثة أحرف ساكن الوسط. انظر: الدر المصون (٥/ ٣٥٨).
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٢٧٨).
(٣) انظر: تاريخ ابن جرير (١/ ١١٠)، البداية والنهاية (١/ ١٢٠). وفيهما أقوال أخرى في نسب هود عليه السلام.
﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ﴾ طاعة الله (جل وعلا) هي: امتثال أمره واجتناب نهيه، ومن ذلك أن لا تختصموا في عَرَضٍ من الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطيعوا رسوله ﷺ واقبلوا وارضوا بما يفعله بينكم من قَسْم هذه الغنائم.
قوله: ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ هذه أصلها تُشكل على بعض أهل العلم؛ لأن المعروف في كلام العرب أنَّ (إنْ) الشرطية تدل على الشك في الشرط، وهم مؤمنون لا شك في إيمانهم، فكيف يتقيّد إيمانهم بالشرط مع أنهم مؤمنون؟!
(إنْ) هذه أصلها من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين (١)، فعلماء الكوفيين يقولون: إنَّ (إنْ) هنا بمعنى (إذ) التعليلية ﴿واتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مؤْمِنينَ﴾ قالوا: واتقوا الله إذ كنتم مؤمنين، أي: لأجل كونكم مؤمنين فاتقوا الله؛ لأن إيمانكم سبب يحملكم على تقوى الله، قالوا: وإتيان (إنْ) بمعنى (إذ) أسلوب عربي معروف، قالوا: ومنه قول الفرزدق وهو عربي فصيح (٢):

أَتَغْضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيبةَ حُزَّتَا جِهَارًا ولم تَغضَبْ لقَتْل ابنِ خَازِمِ
معناها: أتغضب لأجل حزّ أذني قتيبة.
والبصريون يقولون: إنَّ (إنْ) هذه تستعمل استعمالين:
أحدهما: يراد به التهييج والحض على الفعل، وأن ذلك أسلوب عربي معروف، كما تقول للرجل الكريم: (إن كنت
_________
(١) انظر: الحروف العاملة في القرآن الكريم ٦٣٩، ٦٤٧، ٧٠٤ - ٧١١، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام.
ومصحِّح، وجماعةٌ صَحَّحُوا حديثَ الحاكمِ، وصحَّحه الحاكمُ، وانتصرَ كثيرٌ لتصحيحِه، ولا شَكَّ أنه معتضدٌ بإجماعِ المسلمينَ في عهدِ الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم على أن عروضَ التجارةِ تجبُ فيها الزكاةُ. وقد ثَبَتَ عن عمرَ بنِ الخطابِ (رضي الله عنه) أنه أَخَذَ زكاةَ الجلودِ من حِمَاس، فعن أبِي عمرِو بنِ حِمَاس أن أباه مَرَّ بعمرَ بنِ الخطابِ يحملُ جلودًا فقال: هل أديتَ زكاةَ هذا؟ - في جلودٍ يَتَّجِرُ بها - فقال: لاَ، قال: هذا مالٌ، فحسبوه فوجدوا الزكاةَ قد وَجَبَتْ فيه، فأخذ منه زكاةَ الجلودِ (١). فهذا ثابتٌ عن عمرَ بنِ الخطابِ ولم يُخَالِفْهُ أحدٌ من الصحابةِ، فالتحقيقُ الذي لا شَكَّ فيه وجوبُ الزكاةِ في عروضِ التجارةِ.
ما زكاةُ الديونِ، وهل تَمْنَعُ الديونُ الزكاةَ من المالِ أو لا (٢)؟ فليس في ذلك شيءٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يَرِدْ عن رسولِ اللَّهِ شيءٌ في زكاةِ الدَّيْنِ، ولا هَلْ هو مُسْقِطٌ للزكاةِ أو لا؟ والعلماءُ مختلفونَ فيه، فاختلفوا في زكاةِ الدَّيْنِ، فكان مالكُ بنُ أنسٍ - رحمه الله -
_________
(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٣/ ١٨٣)، والشافعي (شفاء العي بتخريج وتحقيق مسند الشافعي (١/ ٤١٤)، وفي الأم (٢/ ٤٦)، وأبو عبيد في الأموال ص٣٨٤، وعبد الرزاق (٤/ ٩٦)، والبيهقي (١/ ٣٢٧)، وابن زنجويه في الأموال (٣/ ٩٤١ - ٩٤٢)، وذكره ابن حزم في المحلى (٥/ ٢٣٤ - ٢٣٥) وقال: «وأما حديث عمر فلا يصح؛ لأنه عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه، وهما مجهولان» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (٢/ ١٨٠).
(٢) انظر: المبسوط (٢/ ١٩٤)، المحلى (٦/ ١٠٣)، المجموع (٦/ ٢٠)، المغني (٤/ ٢٦٩)، الموسوعة الفقهية (٢٣/ ٢٣٨).


الصفحة التالية
Icon