أَبِي هريرةَ: قال اللَّهُ: «نَعَمْ». وفي روايةِ ابنِ عباسٍ: قال اللَّهُ: «قَدْ فَعَلْتُ» (١). وهو حديثٌ صحيحٌ، يُصَرِّحُ بِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عنا الآصَارَ والأثقالَ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا.
بَقِيَتْ واسطةٌ هِيَ مَحَلُّ الخلافِ بَيْنَ العلماءِ، وهي ما ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، ولم يَثْبُتْ فِي شَرْعِنَا أنه شرعٌ لنا، ولا غيرِ شَرْعٍ لَنَا. هذا محلُّ الخلافِ، وجمهورُ العلماءِ - وهو المشهورُ عن الأئمةِ الثلاثةِ، مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا الثابتَ بِشَرْعِنَا يكونُ شَرْعًا لَنَا، إلا لدليلٍ يَدُلُّ على أنه منسوخٌ عَنَّا. وعن الشافعيِّ في أَصَحِّ الرواياتِ في أصولِه: أنه لاَ يكونُ شَرْعًا لَنَا إِلاَّ بدليلٍ منفصلٍ. واحتجَّ الشافعيُّ بقولِه تعالى فِي الأنبياءِ والرسلِ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: آية ٤٨] قال: لِكُلِّ نَبِيٍّ شِرْعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَمِنْهَاجٌ مُسْتَقِلٌّ.
واستدلَّ الجمهورُ على أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا - إِنْ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا - شَرْعٌ لنا بأدلةٍ كثيرةٍ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ (٢).
قَالُوا: اللَّهُ (جل وعلا) لَمَّا ذَكَرَ الأنبياءَ فِي سورةِ الأنعامِ قَالَ لِنَبِيِّنَا وهو قُدْوَتُنَا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: آية ٩٠]، وَأَمْرُ القدوةِ أَمْرٌ لأَتْبَاعِهِ. قالوا: وَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ أنه مَا قَصَّ علينا قصصَهم إلا لنعتبرَ بها، فنتباعدُ عَنْ مُوجبِ الهلاكِ، ونتسارعُ إلى موجبِ النجاةِ، كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
_________
(١) مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق. حديث (١٢٥، ١٢٦) (١/ ١١٥ - ١١٦).
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٦٣).
منها، وما هو باطن منها، كما قدمنا في قوله: ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام: آية ١٢٠].
اعلموا أن في ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ تفسيرات خاصة لبعض السلف، ليس المراد بها الحَصْر، وإنما المراد بها التمثيل للظاهر والباطن (١)، كقول بعض العلماء: إن العرب كانوا على قسمين فيهم أراذل أنذال يزنون بالنساء في الحواري، من غير محافظة من مرأى الناس، وفيهم ناس لهم نخوة، يجتنبون الزنا بمرأى من الناس، فيتخذون الصديقات والخدينات، ويزنون بهن سرّاً من غير أن يطّلع الناس، فنهى الله عن باطن الزنا وعن ظاهره، وكقول بعض السلف: إن ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾: هو ما تفعله الجوارح؛ مِنْ سَرِقَة وزنا وغصب وغير ذلك، و ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ هو ما يحتوي عليه القلب من الكبائر القلبية؛ كالعُجْب والرياء والكبر والحسد، وما جرى مجرى ذلك من أمراض القلوب كل هذا من الأمثلة.
والتحقيق: أن الآية الكريمة عامة، والخطاب بها عام، فيجب على كل مُكَلَّف أن يَتَباعَدَ من كل معصية خسِيسَةٍ، سواء كان ذلك ظاهراً بمرأى الناس، كالذي يزني والناس ينظرون، أو يقتل والناس ينظرون، أو يرتكب محرَّماً ظاهراً علناً يراه الناس، وكالذي يفعل الفواحش سرّاً من غير اطلاع الناس، سواء الذي يزني من غير أن يراه الناس، والذي يسرق خفية من غير أن يراه الناس، وهذا لا يفعله إلا مَنْ هو في غاية الجهل؛ لأنه إذا خاف أن يطّلع الناس عليه، وترقّب للفاحشة أن تكون باطنة لا يراها الناس، أليس هو يعلم أن خالقه
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢١٨ - ٢٢٠).
قال تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٧١) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)﴾ [الأعراف: الآيات ٦٩ - ٧٢].
يقول اللهُ جل وعلا: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)﴾ [الأعراف: آية ٦٩].
هذه الآيةُ التي هي قولُه: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ فَسَّرْنَاهَا؛ لأنها اتَّفَقَ فيها قولُ نوحٍ وقولُ هودٍ، فَكُلٌّ منهم قالها لقومِه؛ لأن كلاًّ من قومِهما عَجِبُوا من أن يَبْعَثَ اللَّهُ بَشَرًا، وكذلك عادةُ الأممِ أن تعجبَ من بَعْثِ الرسلِ، ويقولونَ: لاَ يمكنُ أن يبعثَ اللهُ رسولاً يأكلُ ويشربُ ويتزوجُ ويُولَدُ له، حتى إن الله (جل وعلا) بَيَّنَ أن هذه الشبهةَ الكاذبةَ كانت هي المانعَ الأكبرَ من إيمانِ الناسِ، حيث قال: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً (٩٤)﴾ [الإسراء: آية ٩٤] كأنه قال هنا: ما منعَهم من الإيمانِ إلا استغرابُ بَعْثِ البشرِ واستعجابُهم منه، كما أن الذين بُعِثْ فيهم نَبِيُّنَا ﷺ عَجِبُوا من بَعْثِ البشرِ كما قال تعالى في أولِ سورةِ يونسَ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
الكريمة -أعني غزوة بدر- والحاصل أنهما قصتان كان إحداهما شُبّهت بالأخرى، كما أن الله وكل قسم الغنائم إلى رسوله ﷺ وبعضهم لا يرغب في هذا؛ لأنه يرى أنه أحق من غيره، كذلك أخرج رسوله إلى أخذ مال من عِير فجاءها نفير، فصار بعض الصحابة يكره ملاقاة النفير ويقول: ما خرجنا مستعدِّين لقتال الرجال الذين هم في عَددهم وعُددهم، إنما خرجنا لأخذ عِير لا قتال دونها ولا سلاح، فهم كرهوا ملاقاة النفير -جيش قريش- مع أن ملاقاته فيها لهم المصلحة، فالذي كرهوه من قَسْم غنائم بدر هو الذي لهم فيه مصلحة الدنيا والآخرة، والذي كرهوه من خروج رسول الله ﷺ بهم الذي آل إلى قتال جيش قريش كرهوه وهو أيضًا خير لهم في دينهم ودنياهم، فالله (تبارك وتعالى) كأنه أشار بالتشبيه على هذا القول إلى أنه أعلم بمصالحهم من خلقه، وأن خلقه يكرهون شيئًا والمصلحة لهم فيما يختاره لهم ربهم كما قال جل وعلا: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: آية ٢١٦] هذا أقرب الأقوال، وكثير من الأقوال ساقط سقوطًا بيّنًا، وهذا أقربها، واختاره غير واحد.
وقال بعض العلماء: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ كما أن إخراج ربك إياك حق لا شك فيه.
وقال بعض العلماء: هي التي تدل على المجازاة والتعليل، كما تقول لِعَبْدِكَ: (كما أحسنتُ إليك فأطعني). وتقول لمن ترسله إلى مهمة: (كما قطعت عِللك ووفرت لك جميع الأسباب فافعل ما ينبغي). وأنه على هذا كأنه يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وغشاكم النعاس، وثبتكم بالملائكة، وأنزل عليكم ماء
الوداعِ عامَ عَشْرٍ، ولم يَعِشْ بعد ذلك إلا نحوَ ثمانينَ يومًا، وقد صَرَّحَ فيه بأن ذلك الشهرَ حرامٌ، وذلك اليومَ حرامٌ، وذلك البلدَ حرامٌ (١)، ولم يَأْتِ بعدَ ذلك شيءٌ يَنْسَخُ هذا التحريمَ الثابتَ عنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه).
وهذه الآيةُ الكريمةُ قبلَ أن نشرعَ في تفسيرِها نشيرُ إلى أن فيها حُكْمًا يجبُ على كُلِّ مسلمٍ أن يعتبرَ به وينظرَه؛ لأن هؤلاء القومَ كفارٌ، كانوا يسجدونَ للأصنامِ، فَلَمَّا أَحَلَّ لهم رَجُلٌ شيئًا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَحَرَّمَ عليهم شيئًا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وهم يعلمونَ أن اللَّهَ حرَّم تلك الأشهرَ الحُرمَ، ولا يَشُكُّونَ في ذلك، وأن هذا الرجلَ الكنانيَّ أحلَّ لهم ما حرَّمه اللَّهُ، وحرَّم عليهم ما أحلَّه اللَّهُ، فاتبعوا تحريمَ هذا الإنسانِ، فَصَرَّحَ اللَّهُ بأن هذا كفرٌ جديدٌ ازْدَادُوهُ إلى كفرِهم الأولِ. فهذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ براءة مِنْ أَصْرَحِ النصوصِ القرآنيةِ في أن كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وتشريعًا غيرَ تشريعِ اللَّهِ، وقانونًا غيرَ قانونِ اللَّهِ، أنه كافرٌ بالله، إن كان يزعمُ الإيمانَ فقد كَفَرَ، وإن كان كافرًا فقد ازْدَادَ كُفْرًا جديدًا إلى كفرِه الأولِ. والآياتُ الدالةُ على هذا المعنَى لاَ تكادُ تُحْصِيهَا في هذا المصحفِ الكريمِ، الذي هو أعظمُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ من السماءِ إلى الأرضِ، وهو آخِرُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على أكرمِ نَبِيٍّ، وآخِرُ نَبِيٍّ جَمَعَ فيه له علومُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. وسنذكرُ لكم طرفًا من ذلك كما ذَكَرْنَاهُ قبلَ هذا مرارًا (٢) نُبَيِّنُ به أن الحلالَ هو ما أحلَّه اللَّهُ، والحرامَ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينَ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وأن كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ نظامًا وتشريعًا وقانونًا - ولو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ - غيرَ ما أَنْزَلَهُ اللَّهُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥) من هذه السورة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon