-- (١). هذا حديثٌ ثابتٌ في صحيحِ البخاريِّ عن ابنِ عباسٍ، صَرَّحَ فيه ابنُ عباسٍ أن النبيَّ -- اقْتَدَى بِدَاوُدَ في سجدةِ تلاوةٍ، وسجودُ التلاوةِ فرعٌ من الفروعِ كَمَا هو معلومٌ، لا أَصْلٌ مِنَ الأُصُولِ.
وكذلك كَانَ الإمامُ الشافعيُّ (رحمه الله) يقولُ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ هذا الأمرُ الخاصُّ بالنبيِّ - ﷺ - لاَ يَشْمَلُ الأُمَّةَ. هذا الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ. قال: الأوامرُ الخاصةُ بالنبيِّ - ﷺ - لاَ تَشْمَلُ أحكامُها الأمةَ إِلاَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. قال: لأَنَّ اللفظَ الخاصَّ بالرسولِ - ﷺ - لَمْ يَشْمَلِ الأمةَ بحسبِ الوضعِ وَمُقْتَضَى الصيغةِ، وَإِدْخَالُنَا في كتابِ اللَّهِ شَيْئًا لم يَتَنَاوَلْهُ اللفظُ لا يجوزُ إلا بدليلٍ منفصلٍ. وقد بَيَّنَّا فيما مَضَى أن جماهيرَ العلماءِ على أن الخطاباتِ الخاصةَ بالنبيِّ - ﷺ - أنها تشملُ أحكامُها الأُمَّةَ، وإن كان اللفظُ لاَ يتناولُ الأمةَ لأدلةٍ خارجيةٍ عن مادةِ اللفظِ (٢)، مِنْهَا: أنه هو القدوةُ الْمُشَرِّعُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وَأَمْرُ القدوةِ أَمْرٌ لأَتْبَاعِهِ، وَاللَّهُ يقولُ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: آية ٢١]، أي: اقتداءٌ كريمٌ. وذلك الاقتداءُ في أفعالِه وأقوالِه وتقريراتِه - ﷺ -. وَاللَّهُ جل وعلا يقولُ: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: آية ٨٠]، ﴿قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: آية ٣١]، وَاتِّبَاعُهُ يَقْتَضِي في كُلِّ شيءٍ مِمَّا أُمِرَ به،
_________
(١) البخاري، كتاب التفسير، (سورة ص) حديث (٤٨٠٧) (٨/ ٥٤٤).
(٢) في هذه المسألة انظر: البحر المحيط للزركشي (٣/ ١٨٦ - ١٨٨)، شرح الكوكب المنير (٣/ ٢١٨)، نهاية السول (٢/ ١٠١)، شرح مختصر الروضة (٢/ ٤١١)، الفتاوى (١٤/ ٢٧٤، ٢٧٥)، (١٥/ ٨١ - ٨٢، ٤٤٤ - ٤٤٥)، (٢٢/ ٣٢٢)، أضواء البيان (١/ ٢١٩)، (٢/ ٦٤ - ٦٧، ٢٨٥)، (٣/ ٤٩٤، ٤٩٥، ٦٣٤) وغير ذلك من المواضع. وراجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام.
الخبيث الخائن، وهذه الفاحشة الباطنة، يريد أن يحقق بها ما أبطله الله، ويبطل بها ما أحَقَّهُ الله، فعَلَيْنَا جميعاً أن نعلم أن مثل هذه الأفعال بالغة من الخساسة والانحطاط ما ينبغي لمن كان له [عقل] (١) حتى ولو لم يكن له دين وله نخوة وإنسانية وضمير أن يتباعد عن هذا الخلُق الخسيس المنحطّ؛ لأن أكبر نعمة في الدنيا يراها الإنسان أن يكون إذا راجع نفسه فيجد نفسه مرضياً ضميره، لم يرتكب خسيسة، ولا شيئاً يفضحه، هذه أكبر نعمة، وأخس الأشياء: الذي يرتكب الخسائس والفواحش الباطنة مسْتَخْفِياً بها من الناس ولم يستخف بها من الله، يتجرأ على خالق السماوات والأرض، ويستخفي من الناس [وكان الواجب عليه أن يراقب ربه، ويجتهد في أن يُقدم للناس] (٢)
خدمة نزيهة إنسانية، يلقى بها ثوابه عند الله، ويرضي بها ضميره، ويرضي بها الحَفَظَة الملازمين له، مع أنه يتقاضى من بيت مال المسلمين على ذلك شيئاً يسد أَوَدَه وخَلَّتَه، لئلا يضطر إلى ما لا ينبغي، فعلى هذا المسلم أن يُنَزِّهَ ضَمِيره، ويكرم ربه، ويكرم الملائكة الذين مَعَهُ، وأن يُكْرِمَ وَلِيَّ أمر المسلمين الذي حَطّه في ذلك الموضع، ولا يخون؛ لأن الإنسان إذا كان يَجِيئه مِسْكين ضعيف، له حق ثابت له شرعاً، سواء كان إداريّاً أو قضائيّاً، ثم إنه يُسوِّفه ويقول له: بعد بُكرَة، ثم بعد بُكْرَة، ثم بعد أسبوعين!! وهو حقه جاهز لا شيء دونه ولا عقبة، ولم ينقصه إلا
_________
(١) في هذا الموضع كلمة غير واضحة. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.
(٢) في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى..
قبلَه: خليفةً. ولفظُه مؤنثٌ (١) ومعناه مُذَكَّرٌ، فيجوزُ تذكيرُ الضمائرِ الراجعةِ عليه نَظَرًا إلى المعنَى، ويجوزُ تأنيثُها كما قال الشاعرُ (٢):

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعراف: آية ٦٩] الخلفاءُ: جمعُ الخليفةِ؛ لأنه جَعَلَهُمْ خَلَفًا منهم يسكنونَ الأرضَ، أو جَعَلَهُمْ ملوكَ الأرضِ. يزعم أصحابُ القصصِ والأخبارِ أنهم كان عددُهم كثيرًا جِدًّا، وأنهم منتشرونَ فيما بينَ حضرموتَ إلى عمانَ (٣)، وأنهم كانوا يظلمونَ غيرَهم ويقهرونَهم لِمَا أعطاهم اللهُ من القوةِ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ أن منازلَهم كانت في الأحقافِ حيث قال في سورةِ الأحقافِ: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: آية ٢١] وقد بَيَّنَّا (٤) أن الأحقافَ جمعُ حِقْفٍ، والحِقفُ في لغةِ العربِ: الحبلُ من الرملِ، الرملُ المرتفعُ تُسَمِّيهِ العربُ حِقفًا، فالأحقافُ: الرمالُ. والمفسرونَ يقولونَ: إنها رمالٌ في جوانبِ اليمنِ وحضرموتَ، وأنهم كانوا في تلك الرمالِ بينَها أوديةٌ يزرعونَ فيها ويعيشون. وسيأتِي في سورةِ الفجرِ قولُ مَنْ قال من العلماءِ: إنهم كانوا رُحَّلاً يذهبونَ بالمواشِي؛ لأنه أحدُ القولين في قولِه: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)﴾ [الفجر: آية ٧] لأن أحدَ القولين في معنىَ: ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ أنهم أصحابُ عمودٍ يرتحلونَ وَيَبْنُونَ خيمهم على العمدِ؛ ولذا قيل لهم: ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ على أحدِ الوجهين.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٠٧).
(٤) مضى عند تفسير الآية (٦٠) من سورة الأعراف.
العير استنهض ﷺ مَنْ خَفَّ من أصحابه، وكانوا لا يرون أنه قتال؛ ولذا راحوا في قلة من العَدد والعُدد، خرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً يريدون عير أبي سفيان [١/ب] وسيأتي /شرح هذه القصة، وغزوة بدر (١)، وعلى كل حال أنه لما خرج ﷺ وقرُب من بدر أرسل بسبس (٢) بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء ينتظرون خبر القوم (٣)، ثم راح هو وأبو بكر وجاءوا إلى شيخ من بني غفار (٤)؛
لأن بدرًا أصله ماء لبني غفار سُمِّي برجل من غفار يُسمى (بدرًا) هو الذي حفر بئر بدر، فقال له صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرْنِي عَنْ أَبِي سُفْيَانَ؟» قال له: لا أخبرك حتى تخبرني، قال له صلى الله عليه وسلم: «إن أخبرتنا أخبرناك»، فقال له الشيخ: ذاك بذاك؟! قال: «نعم»، قال: أُخبرت أن محمدًا ﷺ خرج في تاريخ كذا وإن كان المخبر صادقًا فهو الآن في محل كذا -وهو نفس المحل الذي فيه رسول الله ﷺ وأصحابه- وأن أبا سفيان خرج بعِيْرِه بتاريخ كذا، وإن كان المخبر صادقًا فإنه يكون في محل كذا -للمحل الذي فيه أبو سفيان، فلما أعطاهم الخبر قال: أنجزوا لي الوعد، فأخبروني؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: «نحْنُ مِنْ مَاءٍ». وصار الشيخ يقول: من ماء؟ من ماء العراق؟ لا يدري ما يقصده
_________
(١) انظر تفاصيل الغزوة في السيرة لابن هشام (٢/ ٦٤٣) فما بعدها.
(٢) في صحيح مسلم (١٩٠١): «بُسَيْسَة». قال النووي في شرح مسلم (١٣/ ٤٧): «هكذا هو في جميع النسخ» اهـ ونقل عن القاضي قوله: «والمعروف في كتب السيرة: بسبس... وهو بسبس بن عمرو» وعقبه النووي بقوله: «يجوز أن يكون أحد اللفظين اسمًا له والآخر لقبًا» اهـ. وانظر: إكمال المُعلم (٦/ ٣٢٢).
(٣) انظر: السيرة ص٦٥٣.
(٤) وهو سفيان الضمري كما في ابن هشام..
الشيطانيِّ، وهو قولُهم: ما ذبحتُموه حلالٌ، وما قتلَه اللَّهُ حرامٌ، فأنتم إذًا أحسنُ من اللَّهِ!! ثم أَفْتَى اللَّهُ الفتوى السماويةَ التي تَتَرَدَّدُ في آذانِ الخلقِ مساءً وصباحًا بقولِه: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] وإن أطعتُم أتباعَ الشيطانِ في تحليلِ ما حرَّمه اللَّهُ ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ بالله شِرْكًا أكبرَ، كما قال في هؤلاءِ ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: آية ٣٧] وهذا الشركُ شركٌ أكبرُ مُخْرِجٌ عن الملةِ؛ لأنه شركُ طاعةٍ، وشركُ الطاعةِ شركٌ في الْحُكْمِ، والشركُ في الحكمِ كالشركِ في العبادةِ لاَ فرقَ بينهما الْبَتَّةَ؛ لأن اللَّهَ هو الملكُ الجبارُ العظيمُ الأعظمُ لاَ يرضَى أن يكونَ معه شريكٌ في عبادتِه ولا أن يكونَ معه شريكٌ في حكمِه سبحانَه (جلَّ وعلا) أن يكونَ له شريكٌ في عبادتِه أو شريكٌ في حكمِه، وقد بَيَّنَ هذين الأمرين في سورةٍ واحدةٍ من كتابِه وهي سورةُ الكهفِ، فقال في الإشراكِ به في عبادتِه: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ١١٠] وقال في الإشراكِ به في حُكْمِهِ: ﴿لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ٢٦] فَمَنِ اتَّخَذَ تشريعًا غيرَ تشريعِ اللَّهِ، واتبع نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وقانونًا غيرَ ما شَرَعَهُ اللَّهُ - سواءً سَمَّاهُ نظامًا أو دستورًا، أو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ - هو كافرٌ بالله؛ لأنه يُقَدِّمُ ما شَرَعَهُ الشيطانُ على ألسنةِ أوليائِه مما جُمِعَ من زبالاتِ أذهانِ الكفرةِ على نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) على رُسُلِهِ لِيُسْتَضَاءَ به في أرضِه، وَتُنْشَرَ به عدالتُه وطمأنينتُه ورخاؤُه في الأرضِ.
وهذا مِمَّا لا نزاعَ فيه، وهذا الشركُ الذي هو شركُ اتباعٍ، اتباعِ


الصفحة التالية
Icon