وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة: آية ٤٥]، ونظيره: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا﴾ الآيةَ [التوبة: آية ٣٤]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: آية ٦٢]، ولم يَقُلْ: يُرْضُوهُمَا.
وقوله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ [الأنفال: آية ٢٠]، ولم يَقُلْ: عَنْهُمَا. ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ (١):

إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأَسْـ ـوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا
ولم يقل: «مَا لَمْ يُعَاصَيَا».
وقولُ نابغةِ ذُبْيَانَ (٢):
وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لاَهِيَيْنِ بِهَا وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ
وقولُ الأَضْبَطِ بنِ قريع (٣)، وقيل كعبِ بنِ زُهَيْرٍ:
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَةْ والمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ
ولم يقل: «لاَ فَلاَحَ مَعَهُمَا».
_________
(١) ديوان حسان بن ثابت ص٢٤٦.
(٢) ديوان النابغة الذبياني ص١٩.
(٣) انظر: اللسان (مادة: مسا) (٣/ ٤٨٦)، البيان والتبيين (٣/ ٣٤١)، الأمالي (١/ ١٠٧) ونسبوه للأضبط بن قُريع، وهو في تفسير القرطبي (١/ ٣٧٤)، من غير نسبة.
لا يقدرُ عليه بَنُو آدمَ، ولا يَقْوَوْنَ عليه (١). أما في الآخرةِ فإن اللَّهَ يُرَكِّبُهُمْ تَرْكِيبًا جَدِيدًا قَوِيًّا ليس قَابِلاً للتغيرِ ولا للفناءِ، فَيَقْوَوْنَ بتلك القوةِ على رؤيةِ اللَّهِ جل وعلا.
فَتَبَيَّنَ بهذا أنها جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا، إلا أن البشرَ يعجزون ولا يَقْوَوْنَ عليها، وأنها واقعةٌ شَرْعًا. لأنهم في ذلك الوقتِ يُطِيقُونَهَا لتركيبِهم الجديدِ الدائمِ.
هذا مذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ، وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا في هذه الدروسِ (٢): أن الواجبَ على كُلِّ المسلمين في آياتِ الصفاتِ: أن يعتقدوا ثلاثةَ أُسُسٍ كُلُّهَا في ضوءِ القرآنِ العظيمِ، فَمَنِ اعتقدَ الأسسَ الثلاثةَ كُلَّهَا لَقِيَ رَبَّهُ سَالِمًا على محجةٍ بيضاءَ، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها وَقَعَ في مهواةٍ قد لاَ يتخلصُ منها، هذه الأسسُ الثلاثُ:
أولُها: - وهو الأساسُ الأكبرُ للتوحيدِ، وهو الحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ الصحيحةِ، والصلةِ بِاللَّهِ على أساسٍ صحيحٍ وَثِيقٍ. هذا الأصلُ العظيمُ الذي هو أساسُ التوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ معرفةً صحيحةً وثيقةً -: هو اعتقادُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مُنَزَّهٌ غايةَ التنزيهِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا من صفاتِ خَلْقِهِ أو ذَوَاتِهِمْ أو أفعالِهم. فهو (جل وعلا) العظيمُ الأَعْلَى الذي لا يُشْبِهُ شيئًا من خَلْقِهِ، ومَنِ الْخَلْقُ حتى يُشْبِهُوا مَنْ خَلَقَهُمْ؟ أليسوا أَثَرًا من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ كيفَ تُشْبِهُ الصنعةُ صانعَها؟ لا.
_________
(١) انظر: شرح الطحاوية ص ٢٢٠، مختصر الصواعق ١٨٠.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة الأنعام، وسيأتي في مواضع أخرى متعددة.
لأن الله (جل وعلا) هو العدل الذي لا يأخذ ظلماً: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: آية ٤٠] فلا يأخذ أحداً بعذاب إلا وهو مستحق كل الاستحقاق لذلك العذاب؛ ولذا القرى التي دَمَّرَها لم تكن عندها دعوى ولا معذرة تقول: يا ربنا إنك ظلمتنا؛ أو عاقبتنا ولم تنذرنا!! لأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجته ويُعذر إليه من جميع الجهات، كما قال جل وعلا: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: آية ١٦٥] فلو كان عذبهم قبل أن ينذرهم لاعتذروا وقالوا: أنت لم تُنْذِرْنَا ونحن جاهلون معذورون، ولكن الله يقول: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ وهذه الحجة التي أشار لها في سورة النساء أوضحها في سورة طه، وأشار لها في سورة القصص، حيث قال في طه: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤)﴾ [طه: آية ١٣٤] وقال في القصص: ﴿وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾ [القصص: آية ٤٧] فلما قطع عذرهم بالرسل والآيات والمعجزات لما جاءهم الهلاك لم تكن عندهم دعوى يعتذرون بها، ولا حجة يبدونها إلا الإقرار والاعتراف بأنهم الخبثاء الظالمون؛ ولذا قال: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥)﴾ [الأعراف: آية ٥] لم يكن عندهم عذر ولا دعوى؛ ولذا قالوا: ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
فقوله: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ قال بعض العلماء: فما كان قولهم؛ لأنهم لا حجة لهم ولا دعوى.
تعلمها وتعرفها حتى تتضح لك، هذه الأوزان التي ذكرنا، والذي نسيناه في ذلك، وهو سبب الرجوع لهذا الكلام:
الوزن الرابع من المزيد وهو قوله: (تبيَّن) على وزن (تَفَعَّلَ) بزيادة التضعيف والتاء، وهذا موجود في القرآن بكثرة، وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: آية ١١٤] ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ [إبراهيم: آية ٤٥].
(وتبين) أيضًا بزيادة التاء مع التضعيف تأتي في لغة العرب لازمة ومتعدية، مثال إتيانها لازمة: ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ [إبراهيم: آية ٤٥] ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله﴾ وقد سُمعت في كلام العرب متعدية، ومن سماعها متعدية قول الشاعر (١):
وَلَمَّا تَزَايَلْنا من الجزعِ وانْتَأَى... مُشَرِّقُ رَكْبٍ مُصْعِدًا عَنْ مُغَرِّبِ...
تَبَيَّنْتُ أَلاَّ دَارَ مِنْ بَعْدِ عَالجٍ تَسُرُّ وَأَلاَّ خُلَّة بَعْدَ زَيْنَبِ
فالمصدر المنسبك في قوله: «أن لا دار» في محل المفعول لـ (تبين).
فنحن نذكر هذه المناسبات؛ لأننا نعلم أن القرآن العظيم هو مصدر العلوم، وله في كل علم بيان، فنتطرق الآية من وجوهها، وقصدنا انتفاع طلبة العلم؛ لأن القرآن أصل عظيم تُعرف به أصول التصريف والنحو وأصول الفقه والتاريخ والأحكام إلى غير
_________
(١) البيتان للبحتري، وهما في ديوانه ص (١/ ٨٨) وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) البيت الأول بلفظ مغاير، لكن لما كانت بعض الكلمات غير واضحة بسبب ضعف التسجيل أثبته كما في الديوان.
المعنى أوضحه مسلم بن الوليد الأنصاري صريع الغواني إيضاحًا كاملاً -وإن كان الشعر هنا لا يصلح شاهداً لتأخُّرِ زَمَنِهِ ولَكِنْ يَصْلح مثالاً للإيضاح- فإنه قال في رجل يزعم أن بيداء -وهو الفلاة الواسعة- ولدته وتمخّضت عنه وصار ابنها كما تتمخّض النتوج عن ولدها قال (١):
تمخَّضتْ عنه تِمّاً بعد مَحْمله... شهرينِ بَيْداءُ لم تُضرب ولم تَلدِ...
ألقتْه كالنَّصْلِ معطوفاً على هِمَم يعمدن منتجعَاتٍ خيرَ مُعتمِدِ
وابن السبيل: هو المحتاج الآن، وهو منقطع عن بلده، ولو كان غنيّاً في بَلَدِهِ، فيعطى من الخُمُسِ ما يُوَصِّلُهُ إلى بَلَدِهِ حتى يرجع إلى محله. هذا معنى: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال: الآية ٤١].
[٥/أ] / ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (٤٤)﴾ [الأنفال: ٤١ - ٤٤].
_________
(١) البيت في ديوانه ص٧١، وفي شرحه للدهان ص٨٤.


الصفحة التالية
Icon