كما قال: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ [سبأ: آية ٤٧]، وهذا معنَى قولِه: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: آية ٩٠]، يعنِي: ﴿إِلاَّ ذِكْرَى﴾ (ذكرى): اسمُ مصدرٍ بمعنَى التذكيرِ، مُؤَنَّثٌ بألفِ التأنيثِ المقصورةِ تَأْنِيثًا لَفْظِيًّا. فما هو إِلاَّ ذِكْرَى. أي: تَذْكِيرٌ وَعِظَةٌ للعالمين، يتذكرونَ ويتعظونَ بما فيه مِنَ الغرائبِ والعجائبِ والمواعظِ، وما كانَ بهذه المثابةِ لاَ يَحْسُنُ وَلاَ يَجْمُلُ أَنْ يُؤْخَذَ عليه جُعْلٌ أَوْ أَجْرٌ، لاَ وَكَلاَّ (١).
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [الأنعام: آية ٩١].
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في مالكِ بنِ الصيفِ، وهو حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ اليهودِ، ذَكَرُوا في قصتِه: أن النبيَّ - ﷺ - نَاشَدَهُ: «أَوَجَدْتَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ؟» وأنه قال: نَعَمْ. وأنهم قالوا له: أَنْتَ حَبْرٌ سَمِينٌ!! فَغَضِبَ، وقال: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» (٢).
مع أن أَثَرَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» لَمْ يَثْبُتْ من طريقٍ صحيحٍ، إلا أن هذا ذَكَرَهُ بعضُ العلماءِ في سببِ نزولِ هذه
الآيةِ.
والذين قالوا هذا قالوا: هذه آيةٌ مدنيةٌ مِنْ سورةٍ مكيةٍ؛ لأَنَّ سورةَ الأنعامِ مكيةٌ نَزَلَتْ قبلَ الهجرةِ
_________
(١) انظر: القاسمي (٦/ ٦١٩ - ٦٢٢).
(٢) أخرجه ابن جرير (١١/ ٥٢١)، وابن أبي حاتم (٤/ ١٣٤٢)، والواحدي في أسباب النزول ص ٢٢٠ من طريق سعيد بن جبير مرسلا. وعزاه في الدر (٣/ ٢٩) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وفي سنده - إضافة إلى الإرسال - (يعقوب القمي) و (جعفر بن أبي المغيرة) وكلاهما قال عنه الحافظ في التقريب (ص٢٠١، ١٠٨٨): «صدوق يهم» اهـ.
ويشرب؛ لأن حياته التي يَعيشُ بها ليست حَيَاةً شَرْعِيَّة، وإنما هي حياة غير شرعية، والمعْدُوم شرعاً كالمعدوم حسّاً.
وخالف في هذا أبُو حَنِيفَةَ الجمهور، فقال: لا يُقْتَلُ تَارِكُ الصَّلَاةِ (١)، واستدل بحديث ابن مسعود أن النبي - ﷺ - حصر القتل في ثلاث: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ»، قال أبو حنيفة: هذا حصر من النبي - ﷺ - في ثلاث، ولم يذكر فيها تارك الصلاة، فلا يمكن أن نخرق هذا الحصر، مع أن قتل تارك الصلاة أغلب أدِلَّتِهِ مفاهيم الأحاديث، وظواهر من آيات لا تكون مثل الصريح في قوله: «لَا يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» (٢) هذا مذهب أبي حنيفة ووجهة نظره.
وزاد بعض العلماء أشياء أُخَر، منها: الساحر، فإنه يُقْتَل عند العلماء (٣)، وجاء في بعض روايات البخاري من حديث بَجَالَة: «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ» (٤) وثبت عن ثلاثة مِنَ الصَّحَابَةِ قتل
_________
(١) مضى قريباً عند تفسير هذه الآية.
(٢) مضى قريباً عند تفسير هذه الآية.
(٣) انظر الفتح (١٠/ ٢٣٦)، الاستذكار (٢٥/ ٢٣٧) فما بعدها.
(٤) هذا الأثر قطعة من كتاب عمر لبعض عُمَّالِهِ، فهو موقوف عليه، وقد أخرجه عبد الرزاق (٩٩٧٢، ٩٩٧٣، ١٨٧٤٥ - ١٨٧٤٦، ١٨٧٤٨، ١٨٧٥٦)، وأحمد (١/ ١٩٠ - ١٩١)، وأبو عبيد في الأموال رقم: (٧٧) ص (٣٥)، وأبو داود في الخراج والفيء والإمارة، باب في أخذ الجزية من المجوس، رقم: (٣٠٢٧)، (٨/ ٢٩٤)، وأبو يعلى رقم: (٨٦١، ٨٦٠)، (٢/ ١٦٦ - ١٦٣)، والبيهقي (٨/ ١٣٦، ٢٤٧ - ٢٤٨)، وابن حزم في المحلى (١١/ ٣٩٤، ٣٩٧)، وابن عبد البر في الاستذكار (٣٧٩٤٢ - ٣٧٩٤٣)، وقد أخرج البخاري أصل الحديث من غير موضع الشاهد، كما في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، رقم (٣١٥٦)، (٦/ ٢٥٧)، كما أخرجه مختصراً من غير موضع الشاهد آخرون كالشافعي في الرسالة والأم، والدارمي، والترمذي، والطيالسي، وغيرهم.
﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ قولُه: «قَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُمْ» معناه: اسْتَأْصَلَهُمْ عن آخرِهم؛ لأن النسلَ كأنه دابرٌ للآباءِ، فالدابرُ هو الذي يتبعك عند دُبُرِكَ، فكأن الآباءَ أمةٌ سالفةٌ، ونسلَهم شيءٌ تابعٌ أَدْبَارَهُمْ، نَاشِئٌ بعدَهم. فإذًا قَطْعُ الدابرِ معناه: أُهلكوا عن آخرِهم فلم يَبْقَ منهم نسلٌ يَدْبُرهم، أي: يَمْشِي في دبرهم سالكًا الحياةَ بعدَهم. فقَطْع الدابرِ معناه: إهلاكُهم المستأصلُ بحيث لا يَبْقَى لهم نسلٌ في الأرضِ يكونُ حَيًّا عن دبرٍ منهم، بل أهلكهم اللهُ جميعًا، ولم يترك منهم دَاعيًا ولا مُجِيبًا.
والمفسرونَ يذكرونَ قِصَّتَهُمْ (١) هنا، ويذكرُه الأخباريون (٢) وبعضُها جاء به بعضُ الأحاديثِ، كما جاء في حديثٍ عن الإمامِ أحمدَ (٣).
والذي يَعْرِفُ التاريخَ معرفةً لا بأسَ بها يظهر له أن كثيرًا مما يزعمُه المؤرخونَ في قصةِ عادٍ أنه ليس من الشيءِ الصحيحِ. ومعلومٌ أن التاريخَ وَالسِّيَرَ كالإسرائيلياتِ، منها ما هو صحيحٌ، ومنها ما ليس بصحيحٍ، فَتُحْكَى لِيُعْتَبَرَ بما فيها من الغرائبِ والعجائبِ، وَيُنْتَفَعَ بما
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٠٨)، ابن كثير (٢/ ٢٢٥).
(٢) انظر: البداية والنهاية (١/ ١٢٦).
(٣) أحمد (٣/ ٤٨١، ٤٨٢)، والترمذي في تفسير القرآن، باب: «ومن سورة الذاريات» حديث رقم (٣٢٧٣، ٣٢٧٤)، (٥/ ٣٩١، ٣٩٢)، وابن ماجه في الجهاد مختصرًا باب: (الرايات والألوية). حديث رقم (٢٨١٦)، (٢/ ٩٤١)، وابن جرير (١٢/ ٥١٣، ٥١٦).
وانظر: صحيح الترمذي، حديث رقم (٢٦١١)، وصحيح ابن ماجه، حديث رقم (٢٢٧٢)، والسلسلة الصحيحة (٥/ ١٣٧).
عقبيه وقال: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (١) [الأنفال: الآية ٤٨]، وبعد ذلك تقول قريش: خذلنا سراقة وهرب عنا. ولم يعلموا أنه الشيطان حتى أسلموا وسمعوا قصته تُتلى في سورة الأنفال هذه (٢)،
فلما قال لهم الشيطان: إني جار لكم من بني بكر، وخرجوا، وكان أمية بن خلف -من سادات قريش - هَمَّ أن لا يخرج؛ لأنه كان صديقًا لسعد بن معاذ (رضي الله عنه) في الجاهلية، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل عند سعد، وكان سعد إذا مر
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (٣/ ٢٥٩، ٢٨٣).
(٢) خبر مجيء الشيطان يوم بدر على صورة سراقة بن مالك (رضي الله عنه) جاء في روايات عدة عن جماعة، منهم:
١ - ابن عباس. عند ابن جرير (١٤/ ٧) (من طريق ابن أبي طلحة)، وابن أبي حاتم (٥/ ١٧١٥)، والبيهقي في الدلائل (٣/ ٧٩). وعزاه في الدر (٣/ ١٩٠) لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والواقدي.
٢ - رفاعة بن رافع الأنصاري. وقد ذكره الهيثمي في المجمع (٦/ ٧٧) وعزاه للطبراني، وقال: «وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف» اهـ وعزاه في الدر (٣/ ١٩٠) للطبراني وأبي نعيم في الدلائل.
٣ - السدي. عند ابن جرير (١٤/ ٨).
٤ - عروة بن الزبير. عند ابن جرير (١٤/ ٨).
٥ - ابن إسحاق عند ابن جرير (١٤/ ٨).
٦ - محمد بن كعب عند ابن جرير (١٤/ ١١).
٧ - يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد. عند ابن أبي حاتم (٥/ ١٧١٥). وقد ذكر ابن كثير (٢/ ٣١٧) بعض هذه الروايات، وأورد غيرها من طريق الواقدي وابن إسحاق.
العلماءِ. هذا معنَى قولِه: ﴿لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾.
﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ زَيَّنَ لهم الشيطانُ سوءَ أعمالِهم الخبيئةِ. وهذا يدلُّ على أن مِنْ أسوأِ الأعمالِ وأخبثِها تحليلَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وتحريمَ ما أَحَلَّ اللَّهُ ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾.
﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: آية ٣٧] هذه الآيةُ وأمثالُها بالقرآنِ فيها سؤالٌ معروفٌ، وَإِشْكَالٌ مشهورٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: هذه الآيةُ وأمثالُها صرَّح اللَّهُ فيها بأنه لا يهدِي الكافرينَ، مع أنَّا نشاهدُ اللَّهَ يهدي كثيرًا من الكافرينَ، فَاللَّهُ يهدي مَنْ يشاءُ من الكفارِ، ويضلُّ مَنْ يَشَاءُ، فما وَجْهُ تعميمِه في قولِه: ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ هذا وجهُ السؤالِ.
وللعلماءِ عنه جوابانِ معروفانِ:
أحدُهما: أن هذه الآيةَ الكريمةَ وأمثالَها في القرآنِ من العامِّ المخصوصِ، أي: لا يهدِي القومَ الكافرينَ الذين سَبَقَ في عِلْمِهِ عدمُ هدايتِهم وشقاؤهم شقاءً أزليًّا، كقولِه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ [يونس: الآيتان ٩٦، ٩٧] وقولُه: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٧)﴾ [يس: آية ٧] ونحو ذلك من الآياتِ. وعلى أن هذه الآيةَ الكريمةَ من العامِّ المخصوصِ بآياتٍ أُخَرَ فلاَ إشكالَ.
وقال بعضُ العلماءِ: ﴿لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ما دام اللَّهُ (جلَّ وعلا) مُرِيدًا منهم أن يكونوا كافرينَ، فإذا شَاءَ اللَّهُ أن [يهديَهم


الصفحة التالية
Icon