بعضُ البشرِ - وهو مُوسَى - أُنْزِلَ عليه الكتابُ (١).
إلا أَنَّ هذا في الاصطلاحِ يَتَطَرَّقُهُ سُؤَالٌ، قد يكونُ بعضُ الحاضرينَ لا يَفْهَمُهُ؛ لأنه يُقَالُ: هذا اليهوديُّ بَنَى دَلِيلَهُ على (كُلِّيَّةٍ سَالِبَةٍ) ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ﴾ وأن اللَّهَ لَمَّا نَقَضَ عليه، كان النقضُ في قوةِ (مُوْجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ)؛ لأَنَّ معنَى قولِه: ﴿مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ [الأنعام: آية ٩١] هو في قوةِ: مُوسَى بَشَرٌ، مُوسَى أُنْزِلَ عليه كِتَابٌ. ينتجُ: بعضُ البشرِ أُنْزِلَ عليه كِتَابٌ.
العارفُ باصطلاحاتِ هذه الفنونِ يقولُ: هذا الميزانُ من الشكلِ المعروفِ بـ: (الشكلِ السالبِ) وأهلُه يشترطونَ فيه كُلِّيَّةِ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهُمَا هُنَا: شَخْصِيَّتَانِ.
والجوابُ عن هذا هو: ما هو مُقَرَّرٌ: أن كُلَّ ما تُنتج فيه الكليةُ تُنتج فيه الشخصيةُ؛ لأَنَّ المرادَ أن لاَ يَبْقَى شيءٌ مِنْ أَفْرَادِ الموضوعِ الداخلةِ تحتَ العنوانِ، سواء حَصَرَهَا سُورٌ أو حَصَرَهَا مُجَرَّدُ الْوَضْعِ (٢). وعلى كُلِّ حَالٍ فَهَذَا اليهوديُّ أو غيرُه قَالَ: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ﴾ فَاللَّهُ أَلْزَمَ اليهودَ، وقال لهم: مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ عَلَى مُوسَى؟
[٩/ب] / وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ ببشريةَ مُوسَى، أنه بَشَرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عليهِ الكتابَ، يَلْزَمُ مِنْ ذلك أن بعضَ البشرِ أُنْزِلَ عليه الكتابُ. وهو نقضٌ لِمَقَالَتِهِمْ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ في قولِهم: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ أي: وهو التوراةُ.
_________
(١) انظر: آداب البحث والمناظرة (٢/ ٧٨ - ٨٠).
(٢) المصدر السابق (٢/ ٧٩ - ٨٠).
هي داخلة في قوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾. ومن يقول: إن صاحبها لا يُقتل. يقول: لم تدخل في قوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ لأنها عارضها ما هو أقوى منها، وهو حديث ابن مسعود المتفق عليه: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ... » الحديث (١)، وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
ثم قال جل وعلا: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٥١]. الإشارة مفردة، والمُشار إليه كثير؛ لأن هذا شامل لـ ﴿أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ هذه الآية الأولى من هذه الآيات المحكمات تضمنت خمسة أحكام شرعها الله في جميع الأديان، ولم يَنْسَخ شيئاً منها في لسان نبي، والمعنى: ذلكم المذكور؛ لأن (ذا) إشارة إلى مفرد، والمشار إليه جماعة، وهذا معروف في كلام العرب أن يُشيروا إلى التثنية أو الجمع بإشارة المفرد؛ لأن المقصود: (ذلكم المذكور) وقد أوضحنا هذا في البقرة (٢)، في الكلام على قوله: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: آية ٦٨] أي بين ذلك المذكور من الفارض والبكر فرجع المفرد على الاثنين، ونظيره من كلام العرب: قول عبد الله بن الزّبَعْرى (٣):

إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى وَكِلَا ذَلِكَ لَهُ وَجْهٌ وَقَبَلْ
_________
(١) مضى قريباً عند تفسير هذه الآية.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٣) السابق.
ولم يَبْقَ لهم نَسْلٌ، وهم قبائلُ معروفةٌ، منهم عادٌ وَجُرْهُمٌ، ومنهم ثمودٌ، ومنهم أُميم وعبيل، وجديس وطسم من العربِ البائدةِ المعروفةِ الذين هَلَكُوا عن آخِرِهِمْ (١). وجاء في بعضِ الأحاديثِ ما يدلُّ على أنَّ أولَ مَنْ سَاكَنَ هاجرَ جُرْهُمٌ (٢) ويمكن أن يُحْمَلَ على أنهم أولُ مَنْ سَاكَنَهَا بعدَ زوالِ العمالقِ (٣).
والمذكورُ في التاريخِ (٤) المعروف عند المؤرخين أَنَّ ماءَ زمزمَ لَمَّا نَبَعَ لهاجرَ وإسماعيلَ مَرَّ بهم قومٌ من العماليقِ كانوا مسافرين، وكانت مكةُ في ذلك الوقتِ لاَ يُعْرَفُ بها ماءٌ، فَرَأَوْا طيرَ الماءِ، فجاؤوا فوجدوا هاجرَ وإسماعيلَ واستأذنوهم في المساكنةِ، وَاشْتَرَطَتْ عليهم هاجرُ أَنَّ الماءَ لها، ولم يَزَلِ العمالقُ معهم حتى بَغَوْا وطغوا في الحرمِ، وشبَّ إسماعيلُ، فَسَلَّطَ اللهُ عليهم جرهمًا - وهم من العربِ البائدةِ، من ذريةِ سامِ بنِ نوحٍ، خلافًا لمن قال من المؤرخين: إن نفس جرهم كان مُسْلِمًا من الذين دخلوا في السفينةِ مع نوحٍ. والصحيحُ الذي عليه جمهورُ المؤرخين: أنه مِنْ ذريةِ سامِ بنِ نوحٍ - فَسَلَّطَ اللهُ عليهم جرهمًا، وكان رئيسُهم مضاضَ بنَ عمرٍو الجرهميَّ، الذي زوَّج ابنتَه رَحْلَةَ لإسماعيلَ، وهي صاحبةُ القصةِ المشهورةِ الذي قال لها إبراهيمُ: إذا جاء زَوْجُكِ فقولِي له:
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ١٢٠)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (١/ ٢٩٤ - ٢٩٨)، صبح الأعشى (١/ ٣١٣)، فما بعدها.
(٢) يشير إلى الحديث الطويل في قصة هاجر وإسماعيل ونبع ماء زمزم. وهو في البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: يزفون: النَّسَلاَنُ في المشي، حديث رقم (٣٣٦٤)، (٣٣٦٥)، (٦/ ٣٩٦ - ٣٩٩).
(٣) قال الحافظ في الفتح: (٦/ ٤٠٣): «وقيل إن أصلهم من العمالقة» ا. هـ.
(٤) انظر: تاريخ الطبري (١/ ١٣٠).
ليس فيه كلفة عليهم، وكانت العدوة القصوى التي بها الكفار لما جاءها المطر كان بها وحل -أي طين- تسوخ به الأقدام، فلم يقدروا على الرحيل منها في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك لما خرجوا وجاءوهم متصوبين من الكثيب الكبير العقنقل، وكان النبي ﷺ أول الليلة التي من صبيحتها بدر أرسل طائفة من أصحابه فيهم علي، والزبير بن العوام (رضي الله عنهم) فوجدوا واردة لقريش، منهم غلام لمنبه ونبيه ابني الحجاج من بني سهم وغيرهم فأخذوهم فجاءوا بهم والنبي يصلي ﷺ والصحابة (رضي الله عنهم) كانوا
يحبون أن تكون الراوية الواردة لأبي سفيان؛ لأنهم يحبون العير ويكرهون النفير، كما قال تعالى: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٧] فإذا قالوا لهم: أين أبو سفيان؟ قالوا: لا علم لنا بأبي سفيان، ولكنا مع قريش: فلان بن فلان.. ، ويعدّون لهم سادات قريش: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، وغير ذلك من صناديد قريش، فإذا قالوا لهم هذا ضربوهم، فإذا ضربوهم تخلصوا منهم وقالوا: نحن واردة أبي سفيان. فإذا قالوا ذلك تركوهم! حتى انصرف النبي ﷺ من صلاته وقال: «إذَا صَدَقُوكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمْ، وإذا كَذَبُوكُمْ تَرَكْتُمُوهُمْ؟! واللهِ إنَّهُمْ لَوَارِدَةُ الجَيْشِ»، وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: «كم عددهُم»؟! فقالوا: كثير ولا ندري عددهم. فقال: «كم يَنْحَرُون؟» قالوا: يومًا عشرًا من الإبل، ويومًا تسعًا، قال: «القَوْمُ ما بين التِّسْعِمِائَةِ والأَلْفِ» وهو كما قال صلى الله عليه وسلم. قال: «مَنْ فِيهم؟» فعدّوا صناديد قريش وأشرافها فذكروا أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وحكيم بن
الظلِّ والثمارِ والمياهِ والظلالِ الباردةِ، فَرَكَنُوا إلى هذا؛ لأن العدوَّ قَوِيٌّ وكثيرُ العددِ جِدًّا، والشقةُ بعيدةٌ، والزمانُ حَارٌّ؛ ولذا مَنْ تَكَاسَلُوا منهم وَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ العظيمَ في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ﴾ أي شيء ثبت لكم يقتضي نُكُولَكُمْ عن الغزوِ واختيارَكم للدعةِ والراحةِ على مرضاةِ اللَّهِ وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ؟ ﴿مَا لَكُمْ﴾ أي شيء ثبتَ لكم. ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا﴾ أي: إذا قال لكم رسولُ الله ﷺ وأصحابُه: ﴿انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ انْفِرُوا معناه: تَهَيَّؤُوا خارجينَ متحركينَ لحربِ الرومِ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لأَنَّ القتالَ والجهادَ في سبيلِ اللَّهِ هو أعظمُ أنواعِ سبيلِ اللَّهِ (جلَّ وعلا).
﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾ أصلُه: (تَثَاقَلْتُمْ) والمقررُ في علمِ العربيةِ: أن كُلَّ ماضٍ على وزنِ (تَفَاعَلَ) أو على وزن (تَفَعَّلَ) إذا تَقَارَبَتْ حروفُه الأُولَى، يكثرُ في اللغةِ العربيةِ إدغامُ بعضِها في بعضٍ واجتلابُ همزةِ الوصلِ لإمكانِ النطقِ بالساكنِ (١)، وهذا يكثرُ في القرآنِ في (تَفَاعَلَ) و (تَفَعَّلَ)، كقولِه هنا في (تفاعل): ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾ أصلُه: (تثاقلتم)، ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: آية ٧٢] أصلُه: (تَدَارَأْتُمْ)، ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا﴾ [الأعراف: آية ٣٨] أصلُه: (تَدَارَكُوا)، ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ﴾ [النمل: آية ٦٦] أصلُه: (تَدَارَكَ علمُهم). وكذلك هو فِي (فَعَّلَ) كقولِه (جلَّ وعلا): ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾ [يونس: آية ٢٤] أصلُه: (تَزَيَّنَتْ) من (تَفَعَّلَ)، ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا﴾ [النمل: آية ٤٧] أصلُه: (تَطَيَّرْنَا). وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة، وانظر: ابن جرير (١٤/ ٢٥٢)، الدر المصون (٦/ ٤٩).


الصفحة التالية
Icon