﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: آية ١].
والآيةُ على هذا الوجهِ الأخيرِ الذي ذَكَرْنَا كقولِه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: آية ٢١٤] فليس لنا أن نقولَ: ليس مُرْسَلاً إِلاَّ لعشيرتِه الأَقْرَبِينَ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ لأَنَّهُ في هذه الآيةِ أَمَرَهُ أن ينذرَ عشيرتَه، وَعَمَّمَ الإنذارَ في آياتٍ أُخَرَ، كذلك في هذه الآيةِ: ﴿لِّتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الأنعام: آية ٩٢] وَعَمَّمَ الإنذارَ في آياتٍ أُخَرَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام: آية ٩٢] وفي بعضِ القراءاتِ: ﴿عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ (١).
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ قد بَيَّنَّا مِرَارًا أن معنَى (الآخرةِ) أنها لاَ دَارَ بَعْدَهَا يُنْتَقَلُ إليها؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ (آخِرَةً). والإنسانُ قَبْلَ أن يصلَ إليها ينتقلُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ. وقد بَيَّنَّا أن رحلةَ الإنسانِ يجبُ عليه النظرُ فيها؛ لأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بذلك. وأن مبدأَ رحلةِ الإنسانِ أنه ترابٌ بَلَّهُ اللَّهُ بِمَاءٍ، ثم صارَ طِينًا، ثم ذَكَرَ عن هذا الطينِ أطوارًا صَارَ فِيهَا حَمَأً مَسْنُونًا، ثم يُبِّسَ فصارَ صَلْصَالاً كالفخارِ، ثم إن اللَّهَ بقدرتِه خَلَقَ من هذا الطينِ بَشَرًا سَوِيًّا في غايةِ الجمالِ، اسْمُهُ آدَمُ، ثم خَلَقَ مِنْ ضِلْعِهِ امرأةً، ثم كان بَيْنَ هذا الرجلِ والمرأةِ ما يكونُ بينَ الرجلِ والمرأةِ. فَالطَّوْرُ لنا جَمِيعًا: هو ذلك الترابُ، والطَّورُ الثاني: هو تلك النطفةُ الأمشاجُ من ماءِ الرجلِ وماءِ المرأةِ.
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٨٠).
المعنى: لا [تقربوا] (١) ماله إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده فاقربوه بغير التي هي أحسن، ليس هذا مراداً بإجماع العلماء، وإنما الغاية تتعلق بمحذوف دل المقام عليه، أي: فحتى يبلغ أشده، فإن بلغ أشده وآنستم منه رشداً فادفعوا إليه ماله.
وإنما كانت الغاية: لأنه إذا كان بالغاً أشده مستكملاً قوته وعقله، لا يقدر أحد على أن يغتصب منه ماله، فهو كسائر الرجال.
والأشُد هنا: التحقيق الذي لا شك فيه أنه بلوغ الحُلم مع إيناس الرشد (٢)؛ لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وقد قال الله تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: آية ٦] فدلت آية النساء على أن الأشد في الغاية هنا: أنه أن يبلغ الحلم، ويُؤنس منه الرشد؛ لأن ببلوغ الحلم يتقوى بدنه ويكون في قوة الرجال، وبإيناس الرشد يتقوى عَقْلُهُ ونَظَرُهُ، فاجتمع أشده بدناً وفكراً ونظراً، فعند ذلك يُعطى ماله، وخير ما يُفَسَّرُ به القرآن القرآن.
أما الأشُد من حيث هو: فهو يطلق على خمس وعشرين، وعلى ثلاثين سنة، وعلى أربعين، وعلى ستين، وعلى خمسين (٣). ومن إطلاقه على الخمسين قول سحيم بن وثيل الرياحي (٤):
_________
(١) في الأصل: «تبلغوا» وهو سبق لسان.
(٢) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٧٩).
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٢٢)، القرطبي (٧/ ١٣٥)، البحر المحيط (٤/ ٢٥٢)، الكليات ٥٤٠، الدر المصون (٥/ ٢٢١)، أضواء البيان (٢/ ٢٧٩، ٢٨٠).
(٤) البيت في القرطبي (٧/ ١٣٥)، أضواء البيان (٢/ ٢٨٠).
وزعم بعضُهم أن هودًا تُوُفِّيَ هنالك بجنبِ رمالِ حضرموتَ. وعن عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ (رضي الله عنه) أنه وَصَفَ لرجلٍ من حضرموتَ كَوْمًا من الرملِ فيه أشجارٌ وكذا وكذا حتى عَرَفَهُ الحضرميُّ بالعلاماتِ، فزعم له أن قبرَ هودٍ عِنْدَهُ (١).
وأكثرُ المؤرخين يقولونَ: إن هودًا لَمَّا أهلكَ اللَّهُ قومَه سارَ هو ومن آمَنَ معه إلى الحجازِ، وماتوا كلهم بِمَكَّةَ، هكذا يقولونَ واللهُ تعالى أعلمُ. وهذا معنَى قولِه: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)﴾.
[١٢/ أ] / قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)﴾ [الأعراف: الآيات ٧٣ - ٧٥].
يقولُ اللهُ جل وعلا: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)﴾
_________
(١) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (١/ ١/١٣٥)، وابن جرير (١٢/ ٥٠٧)، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (١/ ١٣٠).
في ذلك رواجز، ومن جملة ما يقول فيها (١):

أَنَا الذي أزعمُ أَصْلي من بَلِي أَضْرِبُ بالحَرْبَةِ حَتَّى تَنْثَني
ويروى عنه: «بالصَّعْدَةِ حتى تنثني» فجاء واعتذر إلى النبي ﷺ من قَتْلِهِ بأنه ما تعرض له حتى قاتله دون زميله (٢).
فمنح الله المسلمين أكتاف الكافرين، فقتلوا سبعين من خيارهم، وأسروا سبعين، وكان ممن قُتل في ذلك اليوم: أبو جهل بن هشام -لعنه الله- وقد صح عن عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) أنه لما صف النبي ﷺ الصفوف كان بجنب عبد الرحمن -وكان رجلاً له قامة- كان بجنبه رجلان صغيران في القدر، وهما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن الحارث المشهور: بمعاذ بن عفراء، فكأن عبد الرحمن بن عوف استنقصهما وظن أن اللَّذَيْن بجانبيه ليسا رجالاً يمنعانه؛ لأن الرجل إذا كان في صف القتال بجنبه الرجال كانوا يمنعونه ويشدون أزره، فهو استنقص هذين واستحقرهما لصغر قدرهما، فإذا أحدهما يكلمه خفية من صاحبه ويقول: يا عم أرني أبا جهل. قال: ما حاجتك به؟! قال: سمعت عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. ولم يلبث إذ الآخر يُسائله سرًّا من صاحبه ويقول له مثل ما قال صاحبه. قال: فعلمت أن اللذَيْن بجنبي أنهما رجال، ورأيت أبا جهل يدور في قريش كالحَرَجَة -والحرجة: الشجرة الكبيرة في الغابة يحتف بها الشجر من جميع جوانبها-
_________
(١) السابق، ولفظ البيت هناك:
أنا الذي يُقال أصْلِي مِنْ بَلِي أطْعَنُ بالصّعْدَةِ حتَّى تَنْثَنِي
(٢) السابق ص٦٦٩.
﴿إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)﴾ [التوبة: آية ٣٩].
قولُه: ﴿إِلاَّ تَنْفِرُوا﴾ هي (إن) الشرطيةُ أُدْغِمَتْ في (إلا) يعنِي: إلا تَنْفِرُوا، إن لم تَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَتَنْفِرُوا لجهادِ أعداءِ اللَّهِ وإعلاءِ كلمتِه فإن ذلك ضررُه عليكم لا على اللَّهِ ولا على رسولِه.
وهذه الآيةُ فيها سِرٌّ عظيمٌ يَعْلَمُ به الإنسانُ أن كُلَّ ما يفعلُه إنما أثرُه راجعٌ إلى نفسِه، فإن كان شَرًّا فهو يَجْنِي شَرًّا على نفسه، وإن كان خيرًا فهو يجلبُ الخيرَ لنفسِه ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: آية ٧]. فَعَلَى كُلِّ عاقلٍ في دارِ الدنيا أن يعتبرَ بمعنَى هذه الآيةِ وما في معناها من الآياتِ، وهو أن ما يفعلُه الإنسانُ لاَ يَجْنِيهِ إلا هو، وأن حركاتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا يَبْنِي بها مسكنَه الذي يصلُ إليه ويخلدُ فيه خلودًا أبديًّا يومَ القيامةِ، فهذه الحركاتُ والسكناتُ في دارِ الدنيا يظنُّ الجاهلُ أنها أمورٌ لاَ طائلَ تحتَها، ولا يلزمُ الاحتياطُ والنظرُ الدقيقُ فيها، وهذا من أشنعِ الغلطِ؛ لأن حركاتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا مُقْبِلاً ومدبرًا، ذاهبًا وجائيًا، متصرفًا هنا وهنا، كُلُّهُ يبني منزلَه ومقرَّه النهائيَّ، إما أن يَبْنِيَ بذلك غرفةً من غرفِ الجنةِ يخلدُ فيها، أو يبنيَ به سجنًا من سجونِ جهنمَ، هذا هو الواقعُ، فَعَلَى كُلِّ مسلمٍ أن ينظرَ في أقوالِه وأفعالِه، فيعلم أنه ينفعُ بالطيبِ منها نفسَه، ويضرُّ بالخبيثِ منها نفسَه، ليحاسبَ فيجتنبَ الخبيثَ ويجتلبَ الطَّيِّبَ، وهذا معنَى قولِه: ﴿إِلاَّ تَنْفِرُوا﴾ إلا تَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ ورسولِه بالنفرِ إلى الأعداءِ لجهادِ أعداءِ اللَّهِ، وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ، ونصرِ دينِ اللَّهِ ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أنتم الذين تنالون الضرَّ مِنْ ذلك.
﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الظاهرُ أن هذا العذابَ شاملٌ لعذابِ


الصفحة التالية
Icon