خَاشِعًا (١)، ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ (٢):

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أَبِينُهُ وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
أي: منخفضٌ مطمئنٌ، هذا أصلُ الخشوعِ في لغةِ العربِ.
وهو في اصطلاحِ الشرعِ (٣): خشيةٌ تُدَاخِلُ القلوبَ، تَظْهَرُ آثارُها على الجوارحِ، فتنخفضُ وتطمئنُّ خوفًا من خالقِ السماواتِ والأرضِ.
والمعنى:
_________
(١) المصدر السابق.
(٢) ديوان النابغة الذبياني ص٥٢ - ٥٣.
(٣) انظر: تفسير القرطبي (١/ ٣٧٤ - ٣٧٥)، مدارج السالكين (١/ ٥٢١ - ٥٢٢).
من حيثُ هُمَا سمعٌ وبصرٌ يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ - ولله المثل الأعلى - فكأَنَّ اللَّهَ يقولُ: لا تَتَنَطَّعْ يا عَبْدِي يا مسكينُ فتنفي عَنِّي صفةَ سَمْعِي وبصري، مُدَّعِيًا أن المخلوقاتِ تسمعُ وتبصرُ. وأنك إن أَثْبَتَّ لِي سَمْعِي وبصري كُنْتَ مُشَبِّهًا لي بالمخلوقاتِ التي تسمعُ وتبصرُ. لا، وكَلاَّ!! أَثْبِتْ لِي سمعي وبصري، مُرَاعِيًا في ذلك الإثباتِ: تَنْزِيهِي، وقولِي قبلَه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فجميعُ الصفاتِ من هذا البابِ الواحدِ. فأولُ الآيةِ - أعني: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ يدلُّ على التنزيهِ الكاملِ عن مشابهةِ المخلوقين من غيرِ تعطيلٍ، وقولُه: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (١١)﴾ يَدُلُّ على الإيمانِ بالصفاتِ إيمانًا حَقًّا على أساسِ التنزيهِ، من غيرِ تشبيهٍ ولا تَمْثِيلٍ.
فالأساسُ الأولُ من هذه الأُسُسِ الثلاثةِ: هي تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ المخلوقين في صفاتِهم وذواتِهم وأفعالِهم.
الأساسُ الثاني: هو أن لاَ تُكَذِّبَ اللَّهَ فيما أَثْنَى به على نفسِه؛ لأنه لا يَصِفُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: ﴿أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة: آية ١٤٠] ولاَ يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بالله من رسولِ اللَّهِ - ﷺ - الذي قال في حَقِّهِ: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣، ٤].
فَعَلَيْنَا أَوَّلاً أن نُطَهِّرَ قلوبَنا من أقذارِ التشبيهِ، وأن نُنَزِّهَ خالقَ السماواتِ والأرضِ عن أن تُشْبِهَ صفتُه صفةَ خلقِه، ثم إذا طَهَّرْنَا القلوبَ من أقذارِ التشبيهِ، ونَزَّهْنَا خالقَ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، سَهُلَ علينا الإيمانُ بصفاتِه - صفاتِ الكمالِ والجلالِ - إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ وعدمِ المماثلةِ، على غِرَارِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (١١)﴾ [الشورى: آية ١١].
الأساسُ الثالثُ من هذه الأسسِ: هو قَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفياتِ؛ لأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ كيفيةَ الشيءِ فقد أَحَاطَ به، وَاللَّهُ يقولُ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠)﴾ [طه: آية ١١٠].
فهذه الأُسُسُ الثلاثةُ التي هي: تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خلقِه، والإيمانُ بصفاتِه الثابتةِ في كتابِه وسنةِ رسولِه، إِيمَانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وقَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفيةِ. هذا معتقدُ السلفِ الذي كان عليه النبيُّ - ﷺ - وخلفاؤُه الراشدونَ. لاَ يُفَسِّرُونَ صفاتِ اللَّهِ إلا بدليلٍ جليلٍ لائقٍ مُنَزَّهٍ عن الأقذارِ ومشابهةِ الخلقِ، ولاَ يَنْفُونَ عن الله ما أَثْبَتَهُ لنفسِه، بل يثبتونَه له على أساسِ التنزيهِ، على غِرَارِ:
﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ يعني: إنا كنا ظالمين فيما كنا عليه من اتباع غير ما أنزل الله، وترك اتباع ما أنزل الله.
والظالمين جمع تصحيح للظالم، وهو خبر كان منصوب، والظالم: اسم فاعل الظلم، وقد قدمنا مراراً (١) أن الظلم في لغة العرب التي نزل بها القرآن أنه وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم.
وأكبر أنواع وضع الشيء في غير موضعه: وضع العبادة في غير الخالق (جل وعلا)؛ ولذا كان الشرك بالله وعبادة غيره هو النوع الأكبر من أنواع الظلم، كما قال العبد الحكيم لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)﴾ [لقمان: آية ١٣] وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه فسر قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: آية ٨٢] قال: بِشِرْك. ثم تلا قول لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: آية ١٣] (٢) ونظيره في القرآن: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: آية ٢٥٤] وقوله: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)﴾ [يونس: آية ١٠٦] هذا أصل الظلم في لغة العرب. أعظم أنواعه: وضع الشيء في غير موضعه، وضع العبادة في غير مَنْ خلق، وهي الكفر بالله.
ومن أنواع الظلم وضع الطاعة في غير موضعها بأن يطيع عدوه إبليس ويعصي خالقه (جل وعلا)، فمن أطاع إبليس واتبع تشريعه،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(الفَعُول) قليل، كالقبول والولوع والرسول، وإنما قلنا: إن أصل الرسول مصدر لأن ذلك يزول به بعض الإشكالات في القرآن؛ لأن الرسول أصله مصدر بمعنى الرسالة، ومنه قول الشاعر (١):
لقد كذبَ الواشُونَ ما فُهتُ عندهم بقولٍ ولا أَرْسَلتُهم برسولِ
أي: ما أرسلتهم برسالة، وإنما قلنا: إنه مصدر لأن كونه مصدرًا يزيل بعض الإشكالات؛ لأن المصادر إذا وُصف بها ونُعت بها جاز إفرادها وتذكيرها من غير جمع؛ ولذلك جاز إفراد الرسول في حالة التثنية والجمع نظرًا إلى أن أصله مصدر، ومن إفراده في التثنية: قوله تعالى في الشعراء: ﴿فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: آية ١٦] وقد ثنَّاه في طه في قوله: ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ [طه: آية ٤٧] فإفراده وهو تثنية نظرًا إلى أن أصله مصدر، وتثنيته اعتبارًا بوصفيَّتِهِ الطَّارِئَة وقطعًا للنظر عن مصدريته الأصلية، وسُمع في كلام العرب إطلاق الرسول على الجمع بلفظ المفرد، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (٢):
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَواحِي الخَبَرْ
إذا علمت أن أصل الرسول مصدر، وأنه وُصف به، فإذا جُمع كقوله: ﴿جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم﴾ أو ثُنِّي كقوله: ﴿إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ [طه: آية ٤٧] فذلك للاعتداد بالوصفية العارضة، وإذا أُفرد كقوله: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: آية ١٦] فذلك نظرًا إلى المصدرية الأصلية كما لا يخفى.
_________
(١) السابق.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
إلى النبي ﷺ لما أعطى بني هاشم وبني المطلّب خمس ذي القربى من غنائم خيبر، قال العبشميون والنوفليون: نحن من رَسُول الله ﷺ قرابتنا مثل قرابة بني المطلب، فجاء عثمان وهو من بني عبد شمس؛ لأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) هو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وعبد شمس أخو المطلب، وهاشم وجبير بن مطعم هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، ونوفل هذا أخو هاشم والمطلب، فجاء جبير وعثمان يطلبون النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم أن يُسَوِّيَ بَنِي نوفل وبني عبد شمس ببني المطلب، فأبى النبي ﷺ وبَيَّنَ أَنَّ بَنِي المطلب وبني هاشم هم المرادون بالقرابة، وأنهم هم المستحقون خُمس خمس الغنيمة. وهذا ثابت في الصحيح عن النبي ﷺ (١) فلا ينبغي الخلاف فيه. وإن كانت جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه قالوا: أن ذي القربى أنهم الهاشميون. وجماعة قالوا: إنهم قريش كلهم. فأصح الأقوال وأثبتها دليلاً أن المراد بذي القربى: بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف دون إخوتهم الآخرين من بني عبد شمس وبني نوفل، فهذا هو الصواب -إن شاء الله-؛ لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه فعله مبيّناً به معنى هذه الآية الكريمة.
وقد ذكرنا أن العلماء اختلفوا في ذي القُرْبَى، فجمهور العلماء على أن نصيبهم باق، وأنه لم يسقط بموته ﷺ خِلاَفاً لأبي حنيفة، وقد قدّمنا أن أكثر العلماء على أنه يعطى منه غنيهم وفقيرهم ولا يختص بفقرائهم، وأن بعض العلماء قال: يُفضّلُ ذَكَرهُمْ على أُنْثَاهُمْ كالمِيرَاثِ. وبعضهم قال: يُسوّى فيه الذكر والأنثى.
_________
(١) تقدم تخريجه قريباً.


الصفحة التالية
Icon