كما قال: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ لأَنَّ الرَّبَّ هو الذي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ، فَمَنِ اتَّبَعْتَ تَحْرِيمَهُ وَتَحْلِيلَهُ فَقَدْ جَعَلْتَهُ رَبَّكَ.
وهذا الشركُ: شركُ طاعةٍ ونظامٍ، وقانونٌ في التحريمِ والتحليلِ، وَسَيُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبِيهِ يومَ القيامةِ على رؤوسِ الأشهادِ، وَيُبَيِّنُ مصيرَهم الفظيعَ الشنيعَ من النارِ؛ وذلك أَنَّ اللَّهَ يقولُ لِمَنْ كانوا يَتَّبِعُونَ نُظُمَ الشيطانِ وقوانينَه التي شَرَعَهَا على ألسنةِ أوليائِه، تَارِكِينَ نظامَ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ خالقُ الخلقِ على لسانِ نَبِيِّهِ، يقولُ اللَّهُ لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: الآية ٦٠] يعني: باتباعِ نظامِه وتشريعِه وقانونِه: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا﴾ والجِبِلُّ الكثيرُ الذي أَضَلَّهُ: هم الذين يَتَّبِعُونَ تَزْيِينَهُ فِي المعاصِي وتشريعِه ونظامِه المخالفِ لتشريعِ السماءِ ونظامِ خالقِ الكونِ: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ لا عقولَ لكم حيث تَتَّبِعُونَ نظامَ إبليسَ، وتتركونَ نظامَ خالقِكم (جل وعلا)، ثُمَّ قال: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)﴾ [يس: الآيات ٦٠ - ٦٥] وَقَالَ اللَّهُ (جل وعلا) عن نَبِيِّهِ إبراهيمَ أنه يقولُ لأَبِيهِ: ﴿يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ يعني بقولِه: ﴿لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ لا تَتَّبِعْ نظامَه وتشريعَه بالكفرِ والمعاصِي ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم: آية ٤٤].
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ (جل وعلا) الذين يُطَاعُونَ في معصيةِ اللَّهِ، سَمَّاهُمْ (شركاءَ) في هذه السورةِ الكريمةِ، سورةِ الأنعامِ، في قولِه جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٣٧] فَسَمَّاهُمْ (شركاءَ) لَمَّا
أضدادها وصاكم بها؛ أي: أمركم بها أمْراً مُؤَكَّداً، فعليكم أن تحتزموا بها، فلا تَقْربوا مال اليتيم بغير الأحسن، وَلَا تقولوا إلا ما هو عدل، ولا تنقضوا العهود، إلى غير ما جاء في الآيات.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ قرأه هنا حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ بتاء واحدة وذال مخففة، وأصله (تَتَذَكَّرُونَ) فحذفت إحدى التاءين، وقَرَأَهُ الجمهور، وهم الباقون: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ﴾ بتشديد الذال وإدغام إحدى التاءَيْنِ في الذال، وعلى قراءة حفص وحمزة والكسائي: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (١) فقد حُذفت إحدى التاءين، والمضارع المبدوء بتاءين يجوز حذف إحداهما بقياس مطرد:

وَمَا بِتَاءَيْن ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ العِبَرْ (٢)
وعلماء العربية مختلفون اختلافاً لا طائل تحته ولا دليل عليه في التاء المحذوفة من التاءين هل هي تاء المضارعة أو التاء الأخرى؟ (٣) هذا الخلاف لا طائل تحته، ولا دليل عليه، والمدار على أن إحدى التاءين محذوفة، وهذا معنى قوله: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٥٢].
كان بعض العلماء يورد في هذه الآيات سؤالاً، وهو أن يقول: عبّر في الآية الأولى بـ ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ اْلنَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالحَقِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)﴾ [الأنعام: آية ١٥١] وفي هذه الثانية
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران (٢٠٤).
(٢) الخلاصة ص (٧٩).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٥٣)، الدر المصون (٥/ ٢٢٣).
هذه آلاء ونعمًا عليهم على ألسنةِ رسلِه الكرامِ (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم)، وهذا معنَى قولِه: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ﴾.
﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [الأعراف: آية ٧٤] العربُ تقولُ: (بَوَّأَهُ يُبَوِّئه) إذا جَعَلَ له مباءة. والمباءةُ في لغةِ العربِ: المنزلُ. تقولُ العربُ: (بَوَّأَهُ يُبَوِّئُهُ) أي: اتَّخَذَ له مباءةً، أي: منزلاً. وتَبَوَّأَ الرجلُ يَتَبَوَّأ: اتخذَ مباءةً، أي: منزلاً. والمبوَّأ: هو المنزلُ (١). وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، فَمِنْهُ في القرآنِ: ﴿وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ [الزمر: آية ٧٤] أي: نَتَّخِذُ من مباءاتها ومنازلِها حيث نشاءُ: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ [العنكبوت: آية ٥٨] أي: لَنَجْعَلَنَّ الغرفَ مباءاتٍ ومنازلَ لهم. وهذا في القرآنِ كثيرٌ ﴿وَلَقَدْ بَوَّأنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ [يونس: آية ٩٣] أي: أَنْزَلْنَاهُمْ مُنْزَلاً كَرِيمًا طَيِّبًا كما هو معروفٌ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ. ومن إطلاقِه في كلامِ العربِ قولُ عمرِو بنِ معدِ يكربَ الزبيديِّ (٢):
كَمْ مِنْ أَخٍ لِي مَاجِدٍ بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
أَيْ: جَعَلْتُ اللحدَ مباءةً ومنزلاً له عند موتِه. وهذا معروفٌ، وهذا معنَى قولِه: ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [الأعراف: آية ٧٤] أَيْ: جَعَلَ في الأرضِ لكم مباءاتٍ ومنازلَ متنوعةً، منها ما تَتَبَرَّدُونَ به في الصيفِ، ومنها ما تستدفئونَ به في
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: باء) ص١٥٨، اللسان (مادة: بوأ) (٢/ ٢٨٣ - ٢٨٤).
(٢) البيت في الكامل (٣/ ١٣٧٧)، الدر المصون (٣/ ٣٧٩)، شواهد الكشاف ص٣٢، وشطره الأول في هذه المصادر: «كم من أخ لي حازم». سوى شواهد الكشاف إذ فيه: «صالح».
هذه السورة الكريمة.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (١١)﴾ [الأنفال: الآيات ٧ - ١١].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)﴾ [الأنفال: الآيتان ٧، ٨].
قد ذكرنا فيما سبق أن النبيّ ﷺ لما خرج من مدينته هذه -حرسها الله- يتلقى عِير أبي سفيان، وأن أبا سفيان سَاحَل بالعِير، أي: تيامن بها إلى جهة الساحل، وأرسل ابن عمرو الغفاري يستنفر جيش قريش، فاستنفر الجيش، وصار أصحاب رسول الله ﷺ لما علموا بذلك يُحتمل عندهم أن يلتقوا بالجيش، وأن يلتقوا بالعِير، فأوحى الله إلى نبيه ﷺ ووعده إحدى الطائفتين: إِما أن يعطيه العِير فيغتنمها، أو يسلطه على النفير فيهزمه. وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ﴾ حين يعدكم الله وعده الصادق ﴿إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ﴾ (وَعَدَ) من الأفعال التي تطلب مفعولين، فقوله ﴿إِحْدَى﴾ هو مفعولها الثاني.
وقولُها: (في عنقه سَطَعٌ): أي طُولٌ؛ لأنه ليسَ قصيرَ العنقِ. إلى آخِرِ ما ذَكَرَتْهُ من أوصافِه الجميلةِ.
فلما جاء زوجُها قال: هذا وَاللَّهِ صاحبُ قريشٍ الذي يطلبونَه وَلأَجْهَدَنَّ في أن أصحبَه. وَذَكَرَ غيرُ واحدٍ أنه أَسْلَمَ بعدَ ذلك وَهَاجَرَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وفي صبيحةِ ذلك اليوم سَمِعَ قريشٌ هاتفًا من الجنِّ يسمعونَ صوتَه مرتفعًا، ولا يَرَوْنَ شخصَه، يُنْشِدُ ذلك الشعرَ المشهورَ الذي يقولُ فيه (١):
جَزَى اللَّهُ رُبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حَلاَّ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلاَ بِالْبِرِّ وَارْتَحَلاَ بِهِ فَأَصْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمْ بِهِ مِنْ فَعَالِ اللَّهِ جَاهًا وَسُؤْدَدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
ولم يدرِ قريشٌ أين ذهبَ النبيُّ ﷺ حتى سَمِعُوا هاتفًا من الجنِّ على أبِي قُبَيْس ينشدُ هذا الشعرَ، يسمعونَ أيضًا صوتَه ولا يرونَ شَخْصَهُ:
فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانُ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ بِمَكَّةَ لاَ يَخْشَى خِلاَفَ الْمُخَالِفِ
فقال أبو جهل: ما هذانِ السعدانِ، سعد كذا أو سعد كذا (٢).
_________
(١) هذه الأبيات ضمن الرواية المفصلة في قصة أم معبد، وقد سبق تخريجها قريبًا.
(٢) القائل هو أبو سفيان. ومقالته: «من السعدان: أسعد بن بكر، أم سعد بن هُذَيم»؟ وهما قبيلتان.


الصفحة التالية
Icon