وإنزالُ الْمَنِّ والسَّلْوَى، وتفجيرُ الماءِ من الحَجَرِ... إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ في كتابِه.
وجرت العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ يَمْتَنُّ على الموجودين في زمنِ النبيِّ ﷺ بالنعمِ التي أَنْعَمَهَا على أسلافِهم الماضين، وكذلك يَعِيبُهُمْ بالمعائبِ التي صَدَرَتْ من أسلافِهم الماضين؛ لأنهم أمةٌ واحدةٌ؛ ولأنَّ الأبناءَ يتشرفون بفضائلِ الآباءِ، فكأنهم شيءٌ واحدٌ (١). ولذلك كان (جل وعلا) يَمْتَنُّ على هؤلاء بِنِعَمِهِ على الأسلافِ، وكذلك يَعِيبُهُمْ بما صَدَرَ من الأسلافِ؛ لأنهم جماعةٌ واحدةٌ.
وقوله: ﴿الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أي: التي أَنْعَمْتُهَا عليكم، كإنزالِ الْمَنِّ والسَّلْوَى، وتظليلِ الغمامِ، والإنجاءِ من فرعونَ... إلى غيرِ ذلك.
﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ المصدرُ الْمُنْسَبِكُ من (أَنَّ) وَصِلَتِهَا في مَحَلِّ نصبٍ عَطْفًا على ﴿نِعْمَتِيَ﴾ أي: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَتَفْضِيلِي إياكم على العالمين (٢). و «العالَمون»: جمعُ عَالَمٍ، وهو يُطْلَقُ على ما سِوَى الله (٣). والدليلُ على أنه يشملُ أهلَ السماءِ والأرضِ من المخلوقين: قولُه (جل وعلا): ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)﴾ [الشعراء: الآيتان ٢٣، ٢٤]
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (٢/ ٢٣)، (٣٨)، (٣٩)، (٤١)، (٦٣)، (١٦٤)، (١٦٥)، (٢٤٥)، (٢٩٩)، (٣٠٢)، (٣٥٣)، (٤٠٩)، (١٢/ ٣٢٠)، (٣٢١)، المزهر (١/ ٣٣٤)، تفسير السعدي (١/ ٤٢).
(٢) انظر: الدر المصون (١/ ٣٣٤).
(٣) انظر: ابن جرير (١/ ١٤٣ - ١٤٦، ١٥١، ١٥٢)، ابن كثير (١/ ٢٣)، أضواء البيان (١/ ٣٩).
ومعنَى قولِه: «لَيُّ الْوَاجِدِ» يعني: ظلمُ الْغَنِيِّ يُحِلُّ عقوبتَه. يعني: بالحبسِ. وعِرْضَهُ: بأن يقولَ: ظَلَمَنِي، وَمَطَلَنِي. وظاهرُ هذا العمومِ يشملُ الوالدَ إذا مَطَلَ دَيْنَ وَلَدِهِ؛ لأَنَّ لَفْظَةَ «الواجدِ» يصدقُ بكل غريمٍ مُوسِرٍ، فيدخلُ فيه الأبُ، إلا أن مفهومَ الموافقةِ في قولِه: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: آية ٢٣] يُفْهَمُ منه: أن حَبْسَهُ في دَيْنِهِ من بابِ أَوْلَى لاَ يجوزُ. فَخُصِّصَ الحديثُ بمفهومِ الموافقةِ في الآيةِ.
ومثالُه في مفهومِ المخالفةِ: قولُه - ﷺ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (١).
ظاهرُ عمومِه: سواءً كانت سائمةً أو معلوفةً، فَلَمَّا قال في
_________
(١) هذه الجملة - بهذا اللفظ - وردت في عدة أحاديث وآثار، فمن ذلك:
١ - عن ابن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعًا. عند ابن ماجه في الزكاة، باب صدقة الغنم. حديث رقم: (١٨٠٥، ١٨٠٧)، (١/ ٥٧٨ - ٥٧٩).
٢ - عن أنس (رضي الله عنه) مرفوعًا. عند الطبراني في الأوسط (٧/ ٣٠٤) وقال: (لم يرو هذا الحديث عن داود بن أبي هند إلا سلام أبو المنذر، تفرد به حاتم بن عبيد الله. وانظر: مجمع الزوائد (٣/ ٧٣).
٣ - ما رواه قزعة عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) (وشك قزعة في رفعه) عند أحمد (٣/ ٣٥) وقال في المجمع (٣/ ٧٣): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» ١. هـ.
٤ - الحسن البصري (رحمه الله) مقطوعًا. عند ابن أبي شيبة (٣/ ١٣٢).
٥ - إبراهيم النخعي (رحمه الله) مقطوعًا. عند ابن أبي شيبة (٣/ ١٣٢).
كما ورد في هذا المعنى عدة أحاديث وآثار بألفاظ متفاوتة عن أنس وابن عمر (رضي الله عنهم) وكتاب النبي - ﷺ - في الصدقات الذي يرويه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وكتاب أبي بكر (رضي الله عنه) في الصدقات، وكذا كتاب عمر (رضي الله عنه)، وورد عن علي (رضي الله عنه) موقوفًا وغير ذلك وحديث أنس في الصحيح.
هنا فيه إشكالاً معروفًا وسؤلاً مشهورًا عند العلماء؛ لأن طالب العلم يقول: كيف يقول: ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ ثم يقول عقبه ﴿فَجَاءهَا بَأْسُنَا﴾ فكأن البأس لم يأتها إلا بعد أن أُهلكت، والواقع خلافه؛ لأن البأس جاءها وهو إهلاكها. فهذا وجه السؤال.
والجواب عنه للعلماء من أوجه معروفة مشهورة في التفسير:
أحدها: أن الكلام على حذف الإرادة. أي: أردنا إهلاكها بإرادتنا المُصَمِّمَة الأزلية، فنفذنا ذلك، فجاءها بأسنا، وحَذْفُ فعل الإرادة كثير في القرآن جدّاً، كقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ أي: أردت أن تقرأ القرآن ﴿فَاسْتَعِذْ بِالله﴾ [النحل: آية ٩٨] ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ﴾ [المائدة: آية ٦] أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا. وحَذْفُ فعل الإرادة معروف في القرآن وفي كلام العرب.
الثاني: أن المراد بقوله: ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ يعني: حكمنا بإهلاكها. يعني: في سابق أزلنا؛ أي: حكمنا عليها بالإهلاك، وجعلناه قدراً مقدوراً محكوماً به، فجاءها تنفيذاً لذلك القدر ﴿بَأْسُنَا﴾. وهو قريب من الأول.
[الثالث] (١): أن معنى ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ أن الإهلاك -والعياذ بالله- هو الخذلان؛ أي: خذلناها وأضْلَلْنَاهَا فلم تتبع ما أنزل الله، ومن خذله الله ولم يوفِّقْهُ فهو الهالك، كما قال ﷺ في الحديث المشهور إنه ترك أمَّتَهُ على المحَجَّةِ الْبَيْضَاء، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِك (٢). فسمى الزائغ عن الطريق: هالكاً، فمعنى:
_________
(١) في الأصل: «الثاني» وهو سبق لسان.
(٢) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، ولفظه: ((تركتكم على البيضاء))، وفي رواية: ((على مثل البيضاء)). وبنحوه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. أخرجه أحمد (٤/ ١٢٦، ١٢٧)، والدارمي (١/ ٤٣)، وأبو داود في السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم: (٤٥٨٣) (٢/ ٣٥٨)، والترمذي في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع. حديث رقم: (٢٦٧٦)، (٥/ ٤٤)، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث رقم: (٤٢، ٤٣، ٤٤)، (١/ ١٥ - ١٧)، وابن أبي عاصم في السنة (١/ ١٧ - ٢٠)، والمروزي في السنة ص٢٦ - ٢٧، وابن حبان (كما في الإحسان ١/ ١٠٤)، والطبراني في الكبير (١٨/ ٢٤٦ - ٢٤٨)، والآجري في الشريعة ص٤٦ - ٤٧، والحاكم في المستدرك (١/ ٩٥ - ٩٧)، وفي المدخل إلى الصحيح ص٧٩ - ٨١، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (١/ ٢٢، ٧٤ - ٧٦) وأبو نعيم في الحلية (٥/ ٢٢٠ - ٢٢١)، والبيهقي في الكبرى (١٠/ ١١٤)، وفي الاعتقاد ص١١٣، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (٢/ ١١٦٣ - ١١٦٤)، والبغوي في شرح السنة (١/ ٢٠٥).
سياق النفي نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم (١).
والعهد: هو ما تجب المحافظة عليه والوفاء به. والأصل: ما وجدنا لأكثرهم عهدًا.
ويُفهم من قوله: ﴿لأَكْثَرِهِم﴾ أن هنالك عددًا قليلاً لهم عهد. وهذا هو ظاهر الآية؛ لأن الذين هم الأكثر لا عهد لهم.
ثم قال: ﴿وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ (إن) هذه وهذه (اللام) فيها خلاف معروف بين البصريين والكوفيين، المذهب المشهور عند علماء العربية وهو مذهب البصريين أن (إن) مخففة من الثقيلة، وأنها مهملة، وأن (اللام) فارقة بين (إن) المخففة من الثقيلة، وبين (إن) النافية، ولا يكاد هذا يوجد إلا مع الفعل الناسخ كما هنا؛ لأن (وجد) كـ (علم) وغيرها من أفعال القلوب.
ومذهب الكوفيين يقولون: إن (إن) نافية، و (اللام) بمعنى (إلا). وهو غريب. والمعنى عندهم: وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين.
والناس على ارتضاء مذهب البصريين دون مذهب الكوفيين في هذه (٢).
وقوله: ﴿مَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ﴾ [الأعراف: آية ١٠٢] بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا عهد لهم - والعياذ بالله - لأن من لا عهد له لا خير فيه؛ لأن كل التكاليف عهود. ومن لا يفي بعهد لا يطيع الله في شيء، وقد جاءت آيات قرآنية كثيرة تبين
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المصدر السابق (٥/ ٣٩٩ - ٤٠٠).
فاعلموا أنما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فأن لله خُمُسَهُ؛ لأن ذلك من جملة ما أنزل الله في هذه الآيات النازلة يوم بدر.
وقال بعض العلماء: المراد بقوله: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ أي: إن كنتم آمنتم بالذي أنزلنا على عبدنا قالوا هو قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال: الآية ١] وقد أمر الرسول ﷺ أن يخرج خمُسها ويصرفه في هذه المصارف المذكورة ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٤١] بذلك المنزّل فاعْلَموا أنما غنمتم من شيء فخمسه لله. وهذا معنى قوله: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ لأن العبد من أشْرَف الصفات؛ لأن أَشرف الصفات: العبودية له (جل وعلا)؛ ولذا إذا أراد الله أن يرفع من شأن نبيّه ويعظّم الموقف الذي هو فيه عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ العَبْدِ؛ لأنها أعْظَم صفة وأكرمها كما قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: الآية ١] وقال هنا: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله ﴿عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ يوم الفرقان هو يوم بَدْر، لم يكد يُختلف في ذلك، وإنما قيل لبدر يوم الفرقان؛ لأنه يوم فَرَّقَ اللهُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، أوْضَحَ حجَّة الإسلام أنه الحَق، وأن الكفر باطل إيضاحاً يشاهده الجاهل والعالم والغَبِيّ؛ لأنه الْتَقَتْ فِئَتَانِ: فئة كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، وهي فئة قويَّة في عَدَدِهَا وعُدَدِهَا، وفئة مؤْمِنَة تقاتل في سبيل الله، هي ضعيفة في عَدَدِهَا وعُدَدِهَا، فنصر الله [الضعيفة على القوية] (١) وغَلَبَتْهَا وقَتَلَتْ صَنَادِيدَهَا وأشرافها وأسَرَتْهم، فتبيَّن بهذا بياناً واضحاً شافياً يَرَاهُ الناس بحواسهم أن
_________
(١) في الأصل: «القوية على الضعيفة» وهو سبق لسان.


الصفحة التالية
Icon