ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: آية ٣٣] وقال بعضُ العلماءِ: حُقَّ لهذه الواوِ أن تُكْتَبَ بماءِ العينين (١).
يعني: واو ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾؛ لأنه وَعْدٌ من الله صادقٌ، شاملٌ بظاهرِه الظالمَ والمقتصدَ والسابقَ.
وفي الآيةِ سؤالٌ معروفٌ وهو أَنْ يقالَ: ما الحكمةُ في تقديمِ الظالمِ لنفسِه في الوعدِ بجناتِ عدنٍ وتأخيرِ السابقِ (٢)؟ وللعلماءِ عن هذا أجوبةٌ معروفةٌ، منها: أنه قدَّم الظالمَ لِئَلاَّ يَقْنَطَ، وأخَّر السابقَ بالخيراتِ لئلا يُعْجَبَ
بعملِه فَيُحْبَطَ. وقال بعضُ العلماءِ: أكثرُ أهلِ الجنةِ الظالمونَ لأنفسهم، فبدأَ بهم لأَكْثَرِيَّتِهِمْ.
وَمِمَّا يدلُّ على أفضليةِ أمةِ محمد - ﷺ - على بني إسرائيلَ: أن الابتلاءَ الذي يظهرُ به الفضلُ وَعَدَمُهُ إنما يكونُ بخوفٍ أو طَمَعٍ، وقد ابْتَلَى أصحابَ النبيِّ محمد - ﷺ - بخوفٍ، وابتلاهم بطمعٍ، وابتلى بني إسرائيلَ بخوفٍ، وابتلاهم بطمعٍ، أما الخوفُ الذي ابتلى اللَّهُ (جل وعلا) به أصحابَ محمد - ﷺ -: فهو أنهم لما غَزَوْا غزاة بدرٍ، وسَاحَلَ أبو سفيان بِالْعِيرِ، واستنفرَ لهم النفيرَ، وجاءهم الخبرُ بأن العير سَلِمَتْ، وأن الجيشَ أَقْبَلَ إليهم، وأخبرهم النبيُّ - ﷺ - بذلك، قال له المقدادُ بنُ عمرٍو (رضي الله عنه): وَاللَّهِ لو سِرْتَ بنا إلى بَرْك الغِمَادِ (٣) لَجَالَدْنَا مِنْ دُونِهِ معكَ، ولو خُضْتَ بنا هذا البحرَ لَخُضْنَاهُ،
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٦/ ١٦٥).
(٢) انظر: القرطبي (١٤/ ٣٤٩)، الأضواء (٦/ ١٦٥).
(٣) (بَرْك) بفتح الباء وإسكان الراء، وهو المشهور في روايات المحدثين. و (الغِماد) بغين معجمة مكسورة، ومضمومة لغتان مشهورتان، والكسر أفصح، وهو الأشهر عند المحدثين، والضم أشهر في كتب اللغة، وهر موضع من وراء مكة بخمس ليال، بناحية الساحل، وقيل غير ذلك، قال إبراهيم الحربي: «برك الغماد، وسعفات هجر كناية، يُقال فبما تباعد» انظر: النووي على مسلم (٤/ ٤١١)، معجم البلدان (١/ ٣٩٩)، فتح الباري (٧/ ٢٣٢).
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: آية ٢٢٨]، في قولِه جل وعلا: ﴿وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: آية ٤]، فالمطلقةُ الحاملُ تُخَصَّصُ من القروءِ بوضعِ الحملِ، وكما خَصَّصَ منه المطلقةَ قبل الدخولِ بقولِه: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: آية ٤٩] ومعلومٌ أَنَّ تخصيصَ الكتابِ بالسنةِ كثيرةٌ؛ وَلِذَا خُصِّصَ قولُه تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: آية ٢٤] بقولِه: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا... » الحديثَ (١). وخُصِّصَ قولُه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾ [النساء: آية ١١] بأولادِ الأنبياءِ فلاَ يَرِثُونَ، والولدِ الكافرِ فَلاَ يَرِثُ، والولدِ الرقيقِ فلاَ يَرِثُ. كُلُّ ذلك بالسُّنَّةِ، وهذا معروفٌ (٢).
فمعنَى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: آية ١٠٣] أو: لا تُحِيطُ بِهِ الأبصارُ، أو: لا تدركُه الأبصارُ في الدنيا، ولكنها تَرَاهُ فِي الآخرةِ.
واختارَ غيرُ واحدٍ: أن الإدراكَ هنا المنفيَّ معناه: الإحاطةُ. أي: لاَ تُحِيطُ به الأبصارُ، ولا يُنَافِي أنها تَرَاهُ، ولكن لا تُحِيطُ به؛ لأنه لا يُحِيطُ به شيءٌ، وهو محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، وفي الحديثِ: «لاَ
_________
(١) أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (٥١٠٩، ٥١١٠)، (٩/ ١٦٠)، ومسلم، كتاب النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح. حديث: (١٤٠٨)، (٢/ ١٠٢٨) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه).
وقد أخرجه البخاري أيضًا في النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث (٥١٠٨)، (٩/ ١٦٠) من حديث جابر (رضي الله عنه).
(٢) انظر هذه الموانع وأدلتها في العذب الفائض (١/ ٢٣ - ٤١).
في كلام العرب. وهذه أوجه الجواب عن هذا الإشكال.
ومعنى قوله: ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٥] ثم إن الله (جل وعلا) علم بأنه أنزل هذا الكتاب الأعظم، وأمر النبي ﷺ بالتبليغ والإنذار به، ثم أمر باتباعه، ونهى عن اتباع غيره، ثم بيَّن أن من لم يتبع ما أنزل الله يهلكه الله ويدمره، وأنه إذا جاءه الإهلاك والتدمير ليس عنده إلا الإقرار، بيَّن أنه يوم القيامة سيسأل جميع الخلائق من مرسلين ومرسل إليهم ماذا كان موقفهم من هذا القرآن العظيم الذي أمرهم باتباعه في دار الدنيا، فيسأل المرسلين: هل بلغتم كتابي؟ وماذا أجابوكم؟ ويسأل المُرسل إليهم: هل بلغكم رسالاتي؟ وماذا أجبتم به المرسلين؟ ومما يفسر الآية: قوله جل وعلا: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: آية ١٠٩] يعني: ماذا أجابتكم به الأمم لما أمرتموهم باتباع ما أنزلت، ونهيتموهم عن اتباع غيره؟ ثم قال في الأمم: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء﴾ وفي قراءة: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلَونَ﴾ [القصص: الآيتان ٦٥، ٦٦] (١) فالله (جل وعلا) في ذلك الوقت يسأل جميع الخلائق ويقول للمرسلين: هل بلَّغتم رسالاتي؟ ويقول لهم أيضاً: ماذا أجابتكم به أممكم؟ هل قبلت منكم ما جئتم به أو ردته عليكم؟ ويقول للذين أُرسل إليهم: هل بَلَّغَتْكُم الرسلَ رسالاتي، وماذا أجبتم رُسُلي؟ فالذي عرف أن الله أقسم في هذه الآية أنه يسأل الرسل، ويسأل المُرسل إليهم، يلزم عليه في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة أن يكون من المُصدقين للرسل، المتبعين ما أنزل الله لئلا يقع في الويلة العظمى والهلاك الأكبر عند
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٣٨.
﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ﴾ وهذا لا يتعين، وقد يظهر للناظر في الآية أن فيها حذف الصفة، وهو في نظري أقرب مما يذكرون، أن فيها حذف الصفة؛ لأن حذف الصفة إذا دل المقام عليها أسلوب معروف واضح في القرآن العظيم وفي غيره لا لبس فيه. وعلى هذا فالمعنى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ﴾ [الأعراف: آية ١٠٢]. أي: ما وجدنا لهم من عهد مُوفى به. أي: ما وجدنا لهم من عهد يحصل فيه الوفاء خاصة، أما العهد المنقوض فقد يُوجد لكل من الفجرة. وهذا الوجه ظاهر لا خفاء به، ونظيره في القرآن قوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: آية ٧٩] والمعنى: يأخذ كل سفينة صحيحة صالحة؛ لأنه لو كان يأخذ السفينة التي خُرقت لما كان خرق الخضر لتلك السفينة فيه فائدة؛ لأن الخضر صرح بأنه خرقها لِتَتَعَيَّب بذلك الخرق، ويكون ذلك سببًا لسلامتها من غصب ذلك الملك لها؛ ولذا قال: ﴿كُلَّ سَفِينَةٍ﴾ وظاهره يعم المخروقة وغيرها، فالصفة محذوفة دلّ المقام عليها.
ونظيره قوله: ﴿وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا﴾ [الإسراء: آية ٥٨] يعني: من قرية ظالمة، بدليل قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: آية ٥٩] وحذف النعت موجود في كلام العرب بكثرة، وإن قال ابن مالك في خلاصته: إنه يقل (١). فهو كثير في كلام العرب. ومن أمثلته في كلامهم: قول المرقَّش الأكبر (٢):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧١) من سورة البقرة وهو قوله:

وما من المنعوت والنعت عُقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
(٢) السابق.
الأحزاب في غزوة الخندق لما جاء الكفار في عَددهم وعُددهم وحاصروا النبي ﷺ وأصحابه بالمدينة -هذه حرسها الله- وحاصروهم ذلك الحصار العَسْكَرِي التاريخي العَظِيم الذي نَوَّه اللهُ بِشَأْنِهِ، وبَيَّنَ شِدَّتَهُ وعظمه في سورة الأحزاب في قوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (١١)﴾ [الأحزاب: الآيتان ١٠ - ١١] هذا الحصار العظيم جاء وعدد الكفار ضخم، وعُددهم قوة، وأصحاب النبي ﷺ في ضعف وقلة من المال والسلاح، وفي جوع، حتى إن في غزوة الخندق وسيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) كما يذكره المؤرخون والأخباريون وغيرهم يشد حزامه على الحجارة مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ، وهم في ذلك الوقت الناس جميعاً مقاطعوهم سياسيّاً واقتصاديّاً، ليس بينهم وبين أحد من أهل الأرض علاقات اقتصادية، ولا علاقات سياسية، آخر قوم كانت بينهم وبينهم عهود: يهود بني قريظة، فلما نزل الأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم وحاصَرُوهم هذا الحصار العسكري التاريخي العظيم المنوَّه عنه في القرآن، في ذلك الوقت غدر بنو قريظة ونبذوا العهود وصاروا مع الكفار، فلم يَبْقَ لهم تحت أديم السماء صديق ولا مُعِين إلا الله (جل وعلا) وحده، ولما أرسل النبي ﷺ سعد بن عبادة وسعد بن معاذ (رضي الله عنهما) إلى بني قريظة يعرف خبرهما هل هما على عهودهما أو نقضوا العهود وصاروا مع المشركين؟ قال لهم (صلوات الله وسلامه عليه): «إِنْ وَجَدْتُمُ الْقَوْمَ نَقَضُوا العُهُودَ فَكُنُّوا لِي وَلاَ تُصَرِّحُوا بِإِشَارَةٍ نَفْهَمُهَا وَلاَ يَفْهَمُهَا غَيْرِي»؛ لأن النبي ﷺ يخاف أن يداخل الناس شدة الجبن والجزع؛


الصفحة التالية
Icon