الفصلُ الذي بَيْنَ الفعلِ وفاعلِه، والفصلُ يبيحُ تركَ التاءِ، كما عَقَدَهُ في الخلاصةِ بقوله (١):

وَقَدْ يُبِيحُ الْفَصْلُ تَرْكَ التَّاءِ فِي نَحْوِ أَتَى الْقَاضِيَ بِنْتُ الْوَاقِفِ
والشفاعةُ في الاصطلاحِ (٢): هي التوسطُ للغيرِ في جَلْبِ مصلحةٍ أو دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وأصلُها من الشفعِ الذي هو ضِدُّ الوَتْرِ؛ لأن صاحبَ الحاجةِ كان فَرْدًا في حاجتِه فلما جاءه الشفيعُ صارَ شَفْعًا، أي: اثنين، صاحبُ الحاجةِ وَمَنْ يتوسطُ له فيها، هذا [أصل] (٣) معنى الشفاعةِ، والشفاعةُ في الدنيا إذا كانت في حَقٍّ وَاجِبٍ فللشافعِ أَجْرٌ، وإذا كانت في حَرَامٍ فَعَلَيْهِ وِزْرٌ (٤)، كما صَرَّحَ تعالى بذلك في قوله: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ (٥) [النساء: آية ٨٥]
وقال - ﷺ -: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا
_________
(١) الخلاصة ص٢٥، وانظر: شرح الأشموني (١/ ٣٠٩).
(٢) انظر: تفسير ابن جرير (٢/ ٣١ - ٣٢)، القرطبي (١/ ٣٧٨).
(٣) في الأصل: (أصله).
(٤) انظر: الفتح (١٠/ ٤٥١ - ٤٥٢).
(٥) سئل الشيخ رحمه الله عن قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ [النساء: آية ٨٥] ما الفرق بين النصيب والكفل في هذه الآية الكريمة؟ فأجاب: قال بعضُ العلماءِ: النصيب: نصيب من الخير، والكفل: نصيب من الشر، مستدلا بظاهر هذه الآية، والحق أن الكفل نصيب قد يكون من الخير كما في قوله: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: ٢٨]، وقد يكون نصيبا من الشر، كما في قوله: ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ [النساء آية ٨٥]، والظاهر أن التعبير بالنصيب وبالكفل من التفنن في العبارة؛ لأنه أطرف من تكرير النصيب، والله تعالى أعلم.
وآياتهِ الباهرةِ الدالةِ على أنه رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وَحْدَهُ.
﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ أي: بعينِ قَلْبِهِ؛ لأَنَّ الإِبْصَارَ إنما هو بالبصيرةِ، وهو المعنَى الثاني للبصيرةِ، وهو الاستبصارُ والعلمُ بالقلبِ بحقائقِ الأشياءِ ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ يعني: ببصيرةِ قَلْبِهِ، لأَنَّ الإبصارَ النافعَ هو الإبصارُ ببصيرةِ القلبِ كما يأتي في قولِه: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)﴾ [الحج: آية ٤٦].
وَمَنْ أَرَادَ أن يقرب عنده معنَى هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)﴾ فَلْيَنْظُرْ إلى رَجُلَيْنِ في وسطِ الشارعِ، أحدُهما صحيحُ العينين، تَامُّ البصرِ جِدًّا، إلا أنه مفقودُ العقلِ بَتَاتًا. والثاني أَعْمَى، مكفوفٌ لاَ يُبْصِرُ شيئًا، إلا أنه كاملُ العقلِ تَامُّهُ. فتجدُ صحيحَ العينين قويُّ النظرِ حديدُه، الذي يَفْقِدُ العقلَ يضربُ رأسَه في الجدارِ، ويسقطُ في البئرِ، ويسقطُ في النارِ، ويسقطُ على الْحَيَّةِ، فهو لا يَرَى شيئًا، وبصرُه الحديدُ لا ينتفعُ به، وتجدُ ذلك الأَعْمَى وعصاه أمامَه، يروغُ من هنا ومن هنا، كأنه يرى كُلَّ ما يَضُرُّهُ وما ينفعُه، بهذا تَعْلَمُوا مَدَى قولِه: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)﴾ (١).
إِذَا أَبْصَرَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ (٢)
ومعنَى قولِه: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ أي: ببصيرةِ قلبِه وَأَدْرَكَ عظمةَ اللَّهِ، وَفَهِمَ عن اللَّهِ آياتِه التي جاءت بها رسلُه فَآمَنَ بِاللَّهِ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ، وامتثلَ أمرَ اللَّهِ، وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
واحد منا أن يعلم الحقائق القرآنية، وأسرار الوحي، ولا يبقى كالبهيمة التي تأكل النهار وتنام الليل، هذا لا ينبغي؛ لأن الرحيل قريب والقضاء قريب، والمحاسبة حق، وكل ما فعله الإنسان مُسَجَّل عَلَيْهِ، وسيُقرأ على رؤوس الأشهاد، وسيجده في كتاب منشور، فعلينا معاشر الإخوان أن لا نفضح أنفسنا يوم القيامة، وأن لا نُفوِّت الفرصة وقت الإمكان ونضيعها في قال وقيل حتى يضيع العمر المحدد، ويُجر الإنسان إلى القبر وهو صفر الكفين، فقير ليس عنده حسنات، لا ينشر عنه يوم القيامة إلا ما يفضحه ويخزيه، وفضيحة الآخرة وخزيها ليست كفضيحة الدنيا، فالذي يُفضح في الدنيا يكون خسيس العرض وهو في أشد الفضيحة وهو يفرح ويمرح، ويأكل ويشرب، صحيح الجسم، لا أثر عليه، أما فضيحة الآخرة فإنها يتبعها العذاب المخلد، والجر بالنواصي والأقدام إلى النار. فعلينا كُلاًّ أن ننتهِز الفرصة قبل أن يضيع الوقت، وأن لا نُفرِّط لئلا نندم حيث لا ينفع الندم، لأن الله (جل وعلا) مسجل علينا كل ما فعلنا؛ ولذا قال: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (٧)﴾.
وقد أجمع جميع العلماء أن مثل هذه الآيات لم ينزل الله من [السماء إلى الأرض] (١) واعظاً أكبر، ولا زاجراً أعظم من هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، الذي لا تكاد تقلب ورقة واحدة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم؛ لأن جبار السماوات والأرض، خالق الخلق يقول لكم: يا عبادي الأذلاء الضعفاء المساكين: اعلموا أني مطلع على كل ما تفعلون من الخسائس والخبائث، أُسجله عليكم بعلم حقيقي أَزَلِيّ
_________
(١) في الأصل: «من الأرض إلى السماء» وهذا سبق لسان.
إلا الأوَارِيَّ لأْيًا ما أُبَيِّنُها والنُّؤيُ كالحوضِ بالمظْلُومةِ الجَلَدِ
وسمُّوا تراب القبر: (ظليمًا)؛ لأنه يُحفر وهو ليس محلاً للحفر أصلاً، ومنه قول الشاعر (١):
فأَصْبَحَ في غَبْراءَ بعد إِشَاحةٍ من العيش مردودٍ عليها ظَلِيمُها
هذا معروف في كلام العرب، ولم يأت الظلم في القرآن إلاّ بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف: الظلم منه بمعنى النقص، وهو قوله: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ﴾ [الكهف: آية ٣٣] يعني: ولم تنقص ﴿مِنْهُ شيئًا﴾.
إذا عرفتم هذا فَكُلّ مَنْ كَفَرَ بالله فقد وَضَعَ العِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعَها، ومن عصى ربه وأطاع الشيطان فقد وضع الطاعة في غير موضعها، ووضع المعصية في غير موضعها، ومن هنا كان الظلم يُطلق على الكفر وعلى المعاصي، قد قدمنا إطلاق الظلم على الكفر آنفًا في قوله: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: آية ٢٥٤] ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: آية ١٣] ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: آية ١٠٦] وقد يطلق الظلم على معصية الله ولو لم تكن كفرًا كقوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر: آية ٣٢] ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ إلى قوله: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ [التوبة: آية ٣٦] لا تعصوا الله فيهن، هذا معنى قوله: ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ أي: بسببها.
﴿فَانظُرْ﴾ يا نبي الله ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾
_________
(١) السابق.
كَأَنَّ وغَاهَا حُجْرَتَيْهِ وجَالَهُ أضَاميم مِنْ سَفْرِ القَبَائل نُزَّلِ
ومنه: طائر وطير ﴿إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ﴾ [النحل: الآية ٧٩] فجعل (مسخّرات) جمعاً نظراً إلى الطير. وهذا يكثر في كلام العرب، والأظهر أن (الفَعْل) هنا جمع (الفَاعِلْ) وصفاً. وعامة علماء العربية ممن تكلموا في جموع التكسير لم يجعلوا (فَعْلا) من صيغ الجموع، ويزعمون أن هذه الذي ذكرنا أن الأظهر جموع أنها أسماء جموع. هكذا يقولون. والمراد بالركب هنا: الجماعة الذين هم في عِير أبي سفيان.
وقوله: ﴿أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ ظرف والخبر واقع في هذا الظرف. وقراءة: ﴿أسفلُ منكم﴾ (١) شاذة وقراءة الجمهور: ﴿أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ هو في مكان، وهذا المكان أسفل، ومعنى كونه أسفل: أن وادي بدر ذاهب إلى جهة البحر، فكل ما قَرُب من البحر منه فهو أسفل، وما بَعُد منه فهو أعلى.
قال بعض العلماء: في هذه الآية الكريمة سؤال، وهو أن يُقال: ما الفائدة في تعيين أن النبي ﷺ وأصحابه في عُدوة وادي بدر الدنيا، وأن المشركين في عُدوة وادي بدر القصوى، وأن الركب أسفل من الجميع، ما الحكمة في هذا؟ وأي فائدة في معرفة مواضع القوم كلهم (٢)؟
أجاب بعض العلماء عن هذا بأن فيه سرّاً لطيفاً، قالوا: المعنى نَصركم الله وفَرَّقَ بَيْن الحق والباطل بأن نصركم عليهم وظروفكم
_________
(١) انظر: البحر (٤/ ٥٠٠).
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon