أما غير هذا من الشفاعةِ للكفارِ فهو ممنوعٌ إجماعًا، وإنما نَفَعَتْ شفاعةُ النبيِّ - ﷺ - عَمَّهُ أبا طَالِبٍ في نقلٍ من محلٍّ من النارِ إلى محلٍّ آخَرَ.
الشفاعةُ المنفيةُ الأخرى هي الشفاعةُ بدونِ إِذْنِ رَبِّ السماواتِ والأرضِ (١)، فهذه ممنوعةٌ بَتَاتًا بإجماعِ المسلمين، وبدلالةِ القرآنِ العظيمِ، كقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: آية ٢٥٥]. وادعاءُ هذه الشفاعةِ شِرْكٌ بالله وَكُفْرٌ به، كما قال (جل وعلا): ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: آية ١٨]. وَوَجْهُ كونِ هذه الشفاعةِ من أنواعِ الشركِ - ولله الْمَثَلُ الأعلى -: أن ملوكَ الدنيا قد يتمكنونَ من مجرمٍ يتقطعونَ عليه غَيْظًا، ويريدونَ أن يُقَطِّعوه عُضْوًا عُضْوًا، فيأتي بعضُ أهلِ الجاهِ والشرفِ ويشفعُ عندهم له، فيضطرون إلى قَبُولِ شفاعتِه؛ لأنهم لو رَدُّوا شفاعتَه لَصَارَ عَدُوًّا لهم، وَتَرَقَّبُوا منه بعضَ الغوائلِ، فيضطرون إلى أن يُشفِّعُوهُ وهم كَارِهُونَ، خَوْفًا من سُوئِهِ، وربُّ السماواتِ والأرضِ لا يخافُ أحدًا، ولاَ يمكن أن يَضُرَّهُ أحدٌ، فلا يمكنُ أن يتجاسرَ أحدٌ عليه بمثلِ هذا، وله المثلُ الأَعْلَى؛ ولذا قال
_________
(١) انظر: مجموع الفتاوى (١/ ١٣٠)، (١٥٠). (٣٣٢)، (١٤/ ٣٨٠ - ٤١٥)، شرح الطحاوية ص٣٠٠ - ٣٠٢.
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (١٠٤)﴾ [الأنعام: آية ١٠٤] ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)﴾ [الأنعام: آية ١٠٥].
في هذه الآيةِ الكريمةِ ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ (١): قَرَأَه من السبعةِ نافعٌ وعاصمُ وحمزةُ والكسائيُّ: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ على وزنِ (فَعَلْتَ) (الدالُ) غيرُ ممدودةٍ بألفٍ، و (التاءُ) مفتوحةٌ - تاءُ المخاطَبِ - ﴿دَرَسْتَ﴾ بعدمِ مدِّ الدالِ، وفتحِ التاءِ. هذه قراءةُ نافعٍ وعاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ.
وقرأه مِنَ السبعةِ أبو عمرو وابنُ كثيرٍ: ﴿وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ على وزنِ (فَاعَلْتَ) بتاءِ المُخاطَبِ المفتوحةِ.
وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه من السبعةِ: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ على وزنِ (فَعَلَتْ) بتاءِ التأنيثِ الساكنةِ.
اعْلَمْ أولاً أن معنَى الآيةِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ أي: وكذلك التصريفُ الواضحُ الذي تُصَرِّفُ عليه الآياتِ على أنحاءَ مختلفةٍ من إقامةِ البراهينِ العقليةِ، وإفحامِ الخصومِ والوعدِ والوعيدِ، وبيانِ المَحَجَّةِ، كذلك التصريفُ الذي نُصَرِّفُ به الآياتِ في هذه السورةِ: نصرِّفها بغيرِها من جميعِ القرآنِ مما يحتاجُ له البشرُ على أنحاءَ مختلفةٍ من العقائدِ والحلالِ والحرامِ والآدابِ والمكارمِ والأمثالِ والوعدِ والوعيدِ، كذلك التصريفُ الواضحُ على الأنحاءِ المختلفةِ، نُصَرِّفُ الآياتِ. وتصريفُ القرآنِ بهذه
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٠٠، أضواء البيان (٢/ ٢٠٦).
راقب الله، ولاحظ أن الله مطلع عليه - إن كان عاقلاً - استحيا من الله، ولم يرتكب ما يسخط الله، ولا يفضحه هو ويخزيه يوم القيامة.
أراد جبريل عليه السلام أن يُعَلِّم الصحابة (رضي الله عنهم) هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، فجاء النبيَّ ﷺ في قصة حديث جبريل المشهورة، وقال له: «يا محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أخبرني عن الإحسان» والإحسان: هو أن تأتي بالعمل حسناً على الوجه اللائق عند الله (جل وعلا)، والإحسان هو الذي خُلقنا من أجله؛ لأن الله يقول في أول سورة هود: ﴿خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ ثم بين الحكمة في خلقه الخلائق فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: آية ٧] ولم يقل: أكثر عملاً. وقال في أول سورة الكهف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ ثم بين الحكمة في خلق الأرض وزينتها قال: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: آية ٧] وقال في أول سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ ثم بين الحكمة فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: آية ٢] فهذه الآيات دلت على أنه خلق الخلق ليمتحنهم، وهذا لا ينافي: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: آية ٥٦] أي: إلا لآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي عَلَى ألسنة رسلي، وأمتحنهم فيظهر المحسن منهم وغير المحسن، فلما كان الإحسان هو الذي خُلقنا من أجله، أراد جبريل أن ينبه الصحابة على الطريق إليه فقال: «يا محمد أخبرني عن الإحسان» صلى الله عليه وسلم، فبين له النبي ﷺ أن طريق الإحسان محصورة في هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، وهو أن يعلم العبد الضعيف الذليل المسكين أن جبار السماوات والأرض مطلع عليه، حاضر لا يغيب عن شيء من فعله، يعلم كل ما يفعل؛ ولذا
هذه الأوصاف لا يصدقه، وموسى يعلم ذلك. فأكد له في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف أنه رسول حقيق الرسالة، ليست رسالته بكذب ولا بزعم باطل، أنها رسالة صحيحة حق لا شك فيها، وأنها كائنة من رب العالمين، وهذا معنى قوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ﴾ ناداه باسمه ﴿إِنِّي رَسُولٌ﴾ رسالته مبدؤها ﴿مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (العالَمين) تشمل من في السماوات والأرض وما بينهما كما يأتي في الشعراء في قوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (٢٤)﴾ [الشعراء: الآيتان ٢٣، ٢٤] ﴿إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (من) لابتداء الغاية.
﴿حَقِيقٌ﴾ أصل مادة (الحاء والقاف والقاف) في لغة العرب تدل على الثبوت وعدم الاضمحلال. معناه: إني رسول حقيق. أي: رسالتي لا شك فيها، وأني رسول ثابت في ديوان المرسلين، رسالتي حق لا شك فيها، وأني رسول مبدأ رسالته من رب العالمين.
أما على قراءة نافع فمعنى الآية واضح، ومعناه: ﴿عَلَيَّ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ﴾ يلزمني ويجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق، فما أخبرتك يا فرعون إلا بالحق، وأني رسول من رب العالمين، ولو ربيتني وقتلتُ القبطي قتلة متقدمة، كل ذلك لا ينافي أني رسول، وأني صادق في مقالتي، فما قلت على الله إنه أرسلني إليك إلا وأنا قائل عليه بالحق لا كاذب عليه ولا متخرص.
الْمِيعَادِ} أي: لخاف بعضكم من بعض، وجَبُن بعضكم عن بعض، ولما اتفقتم ليحصل ما حصل، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بحكمته (جل وعلا)؛ ولذا قال: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ ولكن الله جمعكم على غير ميعاد فخرجتم أيها المسلمون إلى عِير أبي سفيان، وخرج الكفار إلى إنقاذ عِيرهم، وشاء الله أن تجتمعوا ويوقع الله ما أوقع.
وهذا معنى قوله: ﴿وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً﴾ هو إعزاز دين الإسلام، وبيان برهانه ودليله، وفرق الحق من الباطل بإعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله، وإذلال الكفر، وقتل رؤسائه وصناديده، كان هذا أمراً مفعولاً لا محالة، شاءه الله وقدَّره وهو واقع لا محالة إذا جاء وقته المحدّد له في مكانه المحدّد له في علمه جل وعلا. وهذا معنى قوله: ﴿لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾.
قوله: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣)﴾ [الأنفال: الآيتان ٤٢، ٤٣].
﴿ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: الآية ٤٢] قرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير في رواية البزي، وعاصم في رواية شعبة أبي بكر: ﴿ويحيى من حيي عن بينةٍ﴾ بفك الإدغام في (حَييَ) وقرأه بقية السبعة: ﴿وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ بإدغام الياء في الياء (١). وهذه الكلمة إنما كتبت في المصاحف العثمانية بحاء
_________
(١) انظر: السبعة ص٣٠٦ الإتحاف (٢/ ٨٠).


الصفحة التالية
Icon