الْبَعِيرِ) أي: عِكْمَاه (١)؛ لأنهما مُتَمَاثِلاَنِ. أما إذا كان يماثلُه ويساويه وليس من جِنْسِهِ قيل فيه (عَدْلٌ) بفتحِ العينِ؛ ولذا سُمِّيَ الفداءُ عَدْلاً؛ لأنه شيءٌ مُمَاثِلٌ لِلْمُفْدِي ليس من جِنْسِهِ.
ومن هذا المعنى قولُه (جل وعلا): ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ [المائدة: آية ٩٥]؛ لأن ما يُعَادِلُ الإطعامَ من الصيامِ ليس من جنسِه، فإذا كان من جنسه قيل فيه (عِدْلٌ)، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، وقد كَرَّرَهُ مهلهلُ بنُ ربيعةَ في قصيدتِه المشهورةِ في قوله (٢):

عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا طُرِدَ الْيَتِيمُ عَنِ الْجَزُورِ
عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا مَا ضِيمَ جِيرَانُ الْمُجِيرِ
عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ غَدَاةَ بَلاَبِلِ الأَمْرِ الْكَبِيرِ
عَلَى أَنْ لَيْسَ عِدْلاً مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا بَرَزَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُورِ
_________
(١) العِكْمَان: عِدْلان يُشدان على جانبي الهودج بثوب، انظر: اللسان (مادة: عكم) (٢/ ٨٥٥).
(٢) الأمالي (٢/ ١٣٢)، وقد سقط منها - هنا - أحد الأبيات، كما وقع بين أبياتها شيء من التقديم والتأخير، وهي في الأمالي هكذا:
﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ ولأجلِ أن ينقسموا إلى أشقياءَ وسعداءَ: صَرَّفْنَا هذا القرآنَ على هذا التصريفِ.
﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ أي: وليقولَ الكفارُ الذين خَذَلَهُمُ اللَّهُ ولم يُوَفِّقْهُمْ للعملِ به: ﴿دَرَسْتَ﴾ يَعْنُونَ درستَ هذا القرآنَ على غَيْرِكَ، وأخذتَه عن بعضِ البشرِ (١)، كما يأتي في قولِه: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: آية ١٠٣] وقولِه: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ إلى أن قال: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ أي: يَرْوِيهِ محمدٌ عن غيرِه ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦)﴾ [المدثر: الآيات ١٨ - ٢٦]، وكقولِه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: آية ٤] وكقولِهم: ﴿اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان: آية ٥] أي: ليقولَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ: دَرَسْتَ هذا القرآنَ، وأَخَذْتَهُ عن غيرِك مِنَ الْبَشَرِ، وتعلمتَه منه، كما قالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: آية ١٠٣] أي: لأَجْلِ أن يخذلَ اللَّهُ مَنْ خَذَلَهُمْ فيكذبوا بكتابِ اللَّهِ، وينكروا أنه منزلٌ من الله، ويزعموا أنه درسَه على غيره، وَأَخَذَهُ من بَشَرٍ.
هذا على قراءةِ نافعٍ وعاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ (٢).
أما على قراءةِ ابنِ كثيرٍ وَأَبِي عمرٍو: ﴿وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ﴾ فمعناه رَاجِعٌ إلى الأولِ، والمعنَى: دَارَسْتَ غيرَك من البشرِ، دَارَسْتَهُمْ فَدَارَسُوكَ، وقرأتَ عليهم وقرؤوا عليكَ، فَاسْتَعَنْتَ بهم حتى
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٠٦).
(٢) في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات ٢٦٤، ابن جرير (١٢/ ٢٦)، القرطبي (٧/ ٥٨)، البحر المحيط (٤/ ١٩٧)، الدر المصون (٥/ ٩٦)، أضواء البيان (٢/ ٢٠٦ - ٢٠٧).
قوله: ﴿وَمَا كُنَّا﴾ للتعظيم، وقد جاء عن ابن عباس (رضي الله عنه) أن السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهما في يد الله (جل وعلا) أصغر من حبة خردل في يد أحدنا (١)، وله المثل الأعلى فهو العلي الأعظم، الكبير الأكبر، الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه شيء، فعلينا جميعاً أن نعلم أن كل ما نفعل أن ربنا مطلع عليه، ومُدَّخره لنا فمجازينا عليه، وليعلم كل واحد منا أن حركاته في دار الدنيا هي بيته الذي يبنيه، والذي يصير مصيره الأبدي إليه، فإن كانت حركاته طيبة كلها طاعة لله فإنه يبني بها غرفة من غرف الجنة، ينال فيها الحور العين، والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، والنظر إلى وجه الله الكريم، وإن كانت حركاته في دار الدنيا حركات سيئة مخالفة (٢) لما أنزل الله فإن تلك الحركات إنما يبني بها منزله ومصيره الأخير، وهو سجن من سجون جهنم؛ لأنه لا مسكن في الآخرة إلا غرف الجنة أو سجون جهنم، وقد يُدخل الواحد من أهل جهنم في سجنه ومقره كما يُدخل الوتد في الحائط لشدة ضيق مكانه عليه، كما قال جل وعلا: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (١٣)﴾ [الفرقان: آية ١٣] فعلى كل مسلم أن لا يضيع الفرصة، وأن يعلم أنها ليست فوضى، وأنه عبد مملوك مربوب، عليه رقابة إلهية عظمى تُسجل عليه ما يفعل من خير وشر، فليتحرَّ، وأن لا يفعل إلا ما يرضي ربه، ولا يخزيه ولا يفضحه يوم القيامة على رؤوس
_________
(١) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (١٠٩٠)، (٢/ ٤٧٦)، وابن جرير (٢٤/ ٢٥)، والذهبي في العلو (٣١٤)، ص١١٧.
(٢) في الأصل: «مخالفة لغير ما أنزل الله» وهو سبق لسان.
مُضمّن معنى (حريص) على قراءة الجمهور، قالوا: ﴿حقيق على أن لا أقول﴾ [الأعراف: آية ١٠٥] أي: حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق، واستشهد لهذا التضمين صاحب الكشاف في كشافه (١) بالبيت الذي أَنْشَدَهُ سيبويه في الكتاب (٢)، قال: ومثله تضمين بيت الكتاب (هيجني) بمعنى: ذكَّرني. والبيت الذي يعني هو البيت المشهور في كتاب سيبويه وهو قول الشاعر (٣):
على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ إذا طُرِدَ اليتيم عن الجَزور
على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ إذا رجف العِضَاه من الدَّبور
على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ إذا ما ضِيمَ جيران المُجير
على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ إذا خيف المخوف من الثغور
على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبٍ غداة بلابل الأمر الكبير
على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبِ إذا برزت مُخبَّأة الخدور
على أنْ ليس عِدْلاً من كُليبِ إذا عَلَنَت نَجِيَّات الأمور
إِذا تَغَنَّى الحمامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي ولو تَسَلَّيْتُ عنها أُمَّ عَمَّارِ
قالوا: (هَيَّجَنِي) معناه: فَكَّرَنِي أمَّ عَمَّار ولو تسلت عنها، وهذا القول من الأقوال التي لا تظهر، فلا يخلو عندي من بعُد، والله أعلم.
وقال بعض العلماء (٤): في الآية الكريمة قلب. وهذا القلب الذي يعنون هنا هو المعروف بالقلب العربي الذي فيه النزاع بين البلاغيين والنحويين كما هو معروف في محله، وهذا القلب أنكره جماعة من العلماء، وقال به جماعة. والحق أن هذا القلب العربي وإن أنكره البلاغيون وقالوا لا يجوز في العربية إلا إذا تضمن اعتبارًا لطيفًا، وسرًّا من أسرار اللغة العربية، وبغير ذلك لا يجوز. والنحويون يجيزه أكثرهم أنه أسلوب عربي إذا دل المقام عليه، وهو موجود في القرآن، وكثير في كلام العرب كما سنُلم به الآن إن شاء الله.
_________
(١) الكشاف (٢/ ٨٠).
(٢) الكتاب (١/ ٢٨٦)
(٣) البيت للنابغة، وهو في ديوانه ص٢١.
(٤) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٠١ - ٤٠٢).
وكونه (جل وعلا) سميعاً عليماً هذا هو البرهان الأكبر والزَّاجِر الأعْظَم الذي لا تكاد تقلب ورقة واحدة من المصحف الكريم إلا وجدته فيه؛ لأن المصحف الكريم لا تكاد تنظر في موضع منه إلا وتجد فيه: ﴿إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: الآية ٢٣١] ﴿خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: الآية ١٥٣] ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: الآية ١٥٤] ﴿لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: الآية ٥] لا تكاد تحصي هذا؛ لأن هذا أكبر واعظ وأعظم زاجر أنْزَلَهُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأرض، وأنه هو الذي يحصل به النَّجَاح في محكّ الاختبار الإنساني بِأَسْرِهِ.
وإيضاح هذا الكلام: أن الله (جل وعلا) بَيَّنَ في آياتٍ مِنْ كِتَابِهِ أن الحكمة التي خلق السماوات والأرض والخلائق من أَجْلِهَا هي أن يبتلي خَلْقَهُ فِي نقطة واحدة هي: إحسان العمل (١)، وليست بكثرة العمل، قال في أول سورة هود: ﴿خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ ثم بَيَّنَ الحِكْمَةَ فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: الآية ٧] ولم يقل: أكثر عملاً، وقال في أوَّلِ سورة الكهف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ ثم بيّن الحكمة فقال: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: الآية ٧] ولم يقل: أكثر عملاً. وقال في أول سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ ثم بيّن الحكمة فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: الآية ٢] ولم يقل: أكثر عملاً. فدلّت هذه الآيات على أن محكّ الاختبار هو إحسان العمل؛ ولذا كل الناس يقول: «ليتني أدركت ما أنجح به في هذا الاختبار، وعرفت الطريق الذي يُتوصّل بها إلى أن أكون أحسن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon