﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٨] وَاللَّهُ ذَكَرَ في الآيةِ الماضيةِ أنه ابْتَلَى بني إسرائيلَ بخيرٍ وَشَرٍّ؛ أما الشرُّ الذي ابتلاهم به فهو ما كان يَسُومُهُمْ فرعونُ من سوءِ العذابِ، وأما الخيرُ الذي ابتلاهم به فهو إنجاؤُه إياهم من ذلك العذابِ.
قال بعضُ العلماءِ: ﴿فِى ذَلِكُم﴾ أي: ﴿وَفِى ذَلِكُم﴾ العذاب الذي كان يَسُومُكُمْ فرعونُ، ﴿بَلاَءٌ﴾ بالشرِّ ﴿مِن رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾، وقال بعضُ العلماءِ: ﴿وَفِى ذَلِكُم﴾ الإنجاءُ الذي أَنْجَاكُمُ اللَّهُ به من عذابِ فرعونَ ﴿بَلاَءٌ﴾ بالخيرِ ﴿مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾، وكلما كان الشرُّ أكبرَ كان الإنقاذُ منه مُمَاثِلاً له في الكِبَرِ، ولا شَكَّ أن العربَ تُطْلِقُ البلاءَ على الاختبارِ بالشرِّ والاختبارِ بالخيرِ، خلافًا لمن مَنَعَهُ في الاختبارِ بالخيرِ، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في الخيرِ قولُ زهير (١):

جَزَى اللَّهُ بِالإِحْسَانِ مَا فَعَلاَ بِكُمْ وَأَبْلاهُمَا خَيْرَ الْبَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو
وهذا معنى قولِه: ﴿وَفِى ذَلِكُم بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾.
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)﴾ [البقرة: الآيات ٥٠ - ٥٣].
_________
(١) شرح ديوان زهير ص٩١، وأوله: (رأى الله)، وهي إحدى روايات البيت. والبيت في ابن جرير (٢/ ٤٩)، معاني القرآن للزجاج (١/ ١٣٢)، الدر المصون (١/ ٣٤٨).
كذا قالوا واللَّهُ - تعالى - أعلمُ؛ ولذا لِمَا نَوَّهَ بهذه البصائرِ التي هي النعمةُ العظيمةُ: ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٠٤] أَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا وقال: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٦] وهذا الذي أُوحِيَ إليك من ربكَ هو تلك البصائرُ، أي: الْحُجَجُ القاطعاتُ، والأدلةُ الساطعاتُ الواضحاتُ، التي لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا، التي صَرَّفَهَا اللَّهُ في هذا القرآنِ العظيمِ ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ [الأنعام: آية ١٠٥] كما قال جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الإسراء: آية ٨٩] وهذا معنَى قولِه: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٦].
وهذه الآيةُ نَصَّ بأن الذي يجبُ اتِّبَاعُهُ هو الوحيُ، وهو القرآنُ العظيمُ، فلا يجوزُ اتباعُ غيرِه، فَمَنِ اتبعَ تَشْرِيعًا غيرَه فَرَبُّهُ من اتبع تشريعَه، كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا (١)، وكما سيأتِي إيضاحُه مِرَارًا في هذه السورةِ الكريمةِ سورةِ الأنعامِ (٢)؛ لأن التشريعَ إنما هو لخالقِ السماواتِ والأرضِ، كما أنه لاَ شريكَ له في عبادتِه: كذلك لا شريكَ له في حُكْمِهِ؛ ولذا قال تعالى في العبادةِ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)﴾ [الكهف: آية ١١٠] وقال في حُكْمِهِ: ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦)﴾ [الكهف: آية ٢٦] وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ: ﴿وَلاَ تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ (٣)
فالحكمُ لِلَّهِ وحدَه، كما أن العبادةَ له وحدَه، فهو المعبودُ وحدَه (جل وعلا)،
_________
(١) ما سبق عند تفسير الآية (٥٧)، والآية (٩٤) من سورة الأنعام.
(٢) انظر ما سيأتي عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام، والآية (١٥٨) من سورة الأعراف، والآيتين (٢٨، ٣١) من سورة التوبة.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران، ص٢٧٧..
صواف (١)، وكما جاء في الحديث أن عمل الإنسان يتجسم له في صورة إنسان طيب الريح، وكذلك العمل الخبيث (٢)، وكما جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يتمثل لصاحبه في قبره (٣)، وأمثال هذا كثيرة جدّاً، وعلى كل حال فالله قادر على أن يقلب الأعمال أجساماً، فهو قادر على كل ما يشاء، فيجعل الأعمال الصالحة في صور نيرة حسنة. والأعمال القبيحة في صور مظلمة قبيحة، فتوضع هذه في كفة الحسنات وهذه في كفة السيئات، فتثقل موازين بعض، وتطيش موازين آخرين والعياذ بالله.
وقال بعض أهل العلم: إن ما يوزن أصحاب الأعمال، واستدلوا بالحديث المعروف المشهور: أن الرجل السمين -الأكول الشروب- يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة (٤)، وفي مناقب عبد الله بن مسعود: أنهم لما رأوا دقة ساقيه قال لهم صلى الله عليه وسلم:
_________
(١) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة. حديث رقم (٨٠٤ - ٨٠٥)، (١/ ٥٥٣ - ٥٥٤)، من حديث أبي أمامة والنواس بن سمعان (رضي الله عنهما).
(٢) كما في حديث البراء (رضي الله عنه) مرفوعاً عند أحمد (٤/ ٢٩٥)، وأصله في الصحيحين.
(٣) كما في حديث بريدة (رضي الله عنه) عند أحمد (٥/ ٣٥٢)، وابن ماجه في الأدب، باب ثواب القرآن، حديث رقم (٣٧٨١)، (٢/ ١٢٤٢)، وأورده الألباني في صحيح ابن ماجه (٣٠٤٨)، وقال: ضعيف يحتمل التحسين.
(٤) أخرجه البخاري في التفسير، باب: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ حديث رقم (٤٧٢٩)، (٨/ ٤٢٦)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم (٢٧٨٥)، (٤/ ٢١٤٧).
وهي المعجزة كما ترى هنا. ﴿فَأْتِ بِهَا﴾ يعني: ائتنا بها وبَيِّن لنا إن كنت من الصادقين ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ جزاء الشرط فيه محذوف دل عليه ما قبله، أي: ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فأت بها. عند البصريين، ولا مانع عند الكوفيين من تقدم جزاء الشرط عليه فيكون قوله: ﴿فَأْتِ بِهَا﴾ جواب شرط ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وهذا عند الكوفيين لا مانع منه.
(... ) (١) تجيب بها إلا كلامًا لا نفي فيه، لا تكاد تجد (نعم) في كلام العرب إلا جوابًا لكلام إثبات لا نفي فيه؛ لأن الكلام إذا كان فيه نفي كان جوابه بـ (بلى) لا بـ (نعم). فلو قلت لك: هل جاء زيد؟ أعندك ذا؟ تقول: نعم. ولو قلت لك: ألم يأت كذا؟ تقول لي: بلى ولا تقول: نعم. وإذا سُمع عن العرب إتيان (نعم) في كلام فيه نفي فإنه يُحفظ ولا يُقاس عليه؛ لأنه لا ينقاس، ولكنه سماع يُحفظ ولا يقاس عليه، وقد سُمع عن العرب إتيان (نعم) جوابًا لسؤال مقترن بنفي. فالمحل إذْ ذاك بـ (بلى) لا بـ (نعم)، إلا أنهم جاءوا بـ (نعم) سماعًا، ومنه قول الشاعر (٢):
أَلَيْسَ الليلُ يجمعُ أُمَّ عمروٍ... وإيَّانَا فذاك بنا تَداني...
نَعَم وتَرى الهِلالَ كما أراهُ ويعلُوها النهارُ كما عَلاني
فالمحل هنا لـ (بلى) لا لـ (نعم)، ولكنه جاء بـ (نعم) هنا، وقد نص علماء العربية أنها لو سمعت عن العرب في مثل هذا حُفظ
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، والكلام الآتي متعلق بالآية رقم (١١٤)، وهي قوله تعالى: ﴿قَالَ نَعَمْ وَإنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤).... ﴾.
(٢) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٤) من سورة الأعراف.
الحرف ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو (١): ﴿وَإِلَى اللهِ تَرْجِعُ الأمُورُ﴾ ببناء الفعل للفاعل. وقرأه بقية السبعة: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ﴾ ببناء الفعل للمفعول. فـ (الأمور) على الأول فاعل (ترجع) وعلى القراءة الثانية: نائب فاعل (تُرجع) (٢). و (الأمور) جمع أمر، ويعم كل الشئون. والمعنى: مدار الأمور ومصيرها إليه (جل وعلا) كما قال تعالى: ﴿أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾ [الشورى: الآية ٥٣] وقد صار إليه هذا الأمر وآل إليه فنفذ فيه مشيئته وقدرته، وهيأ الأسباب حتى هزم الكفرة وقتل صناديدهم ورؤساءهم وكسر شوكتهم على أيدي أوليائه المسلمين، ونصر نبيه ﷺ وأصحابه وأيّدهم بنصره، وهذا قضاؤه وقدره (جل وعلا)، والله يهيئ الأسباب، ولو شاء فعل بلا سبب، إلا أنه اقتضت حكمته أن يرتب المسبّبات على أسباب، ويسبب للأشياء (جل وعلا) سبحانه وتعالى.
[٥/ب] / {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ
_________
(١) قرأه بالبناء للفاعل: ابن عامر وحمزة والكسائي.
وبالبناء للمفعول: ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم.
انظر: السبعة ص١٨١، المبسوط لابن مهران ص١٤٥، إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٨٠).
(٢) انظر: حجة القراءات ص١٣٠ - ١٣١.


الصفحة التالية
Icon