الأولَ من أطوارِ الإنسانِ: الماءُ والترابُ، والطورَ الثاني: هو النُّطفةُ. أشار الله إلى بعضِ تلك الأطوارِ بقولِه: ﴿أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ثم أَتْبَعَهُ بقولِه: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ على قراءةِ: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ (١) وبعضُهم قَرَأَ: ﴿فَمُسْتَقِرٌّ﴾ بكسرِ القافِ، أما: ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ فجميعُ السبعةِ قرؤوها بفتحِ الدالِ، وأما: ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾ ففيها قراءتانِ سبعيتانِ: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ ﴿فَمُسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ (٢).
أما على قراءةِ: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ (٣) فالأظهرُ أنهما اسْمَا مكانٍ. أي: مكانُ استقرارٍ، ومكانُ استيداعٍ. وقيل: هما مصدرانِ مِيمِيَّانِ. أي: فاستقرارٌ واستيداعٌ.
أما على قراءةِ: ﴿فَمُسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ ﴿فَمُسْتَقِرٌّ﴾: اسمُ فاعلٍ، و ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ اسمُ مفعولٍ. كما يأتي شرحُه.
وقد تَقَرَّرَ في فَنِّ العربيةِ: أن الفعلَ إذا زادَ ماضيه على ثلاثةِ أحرفٍ فإن اسمَ مكانهِ، واسمَ زمانِه، ومصدرَه الميميَّ كلها بصيغةِ وزنِ اسمِ المفعولِ، كما هو معروفٌ في فَنِّ الصَّرْفِ (٤).
وأكثرُ علماءِ التفسيرِ أن المرادَ بـ: (المُستَقَرّ): المُسْتَقَرُّ في
_________
(١) في هذا الموضع وقع وهم للشيخ (رحمه الله) استدركه بعده بأسطر، وقد حذفت الكلام الذي وقع فيه الوهم هنا وأثبت الكلام على وجهه بعد استدراك الشيخ رحمه الله.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص ١٩٩.
(٣) في توجيه هذه القراءات انظر: حجة القراءات ٢٦٢ - ٢٦٣، ابن جرير (١١/ ٥٦٢ - ٥٧٢)، القرطبي (٧/ ٤٦) البحر المحيط (٤/ ١٨٨)، الدر المصون (٥/ ٦٦).
(٤) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٨٣، ٨٤).
لِّلْمُتَّقِين (٢)} [البقرة: الآيتان ١، ٢] وقال في آل عمران: ﴿الم (١) الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)﴾ فأتبعه بقوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ الآية، [آل عمران: الآيات ١ - ٣] وقال هنا في الأعراف: ﴿المص (١)﴾ ثم أتبعه بقوله: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ﴾ [الأعراف: الآيتان ١، ٢] وقال في سورة يونس: ﴿الر﴾ ثم أتبعه بقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: آية ١] وقال في سورة يوسف: ﴿الر﴾ ثم قال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبين﴾ [يوسف: آية ١] وقال في الرعد: ﴿المر﴾ ثم قال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ﴾ الآية [الرعد: آية ١]، وقال في سورة الخليل: ﴿الَر﴾ ثم قال: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: آية ١]، وقال في سورة الحجر: ﴿الَر﴾ ثم قال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ﴾ [الحجر: آية ١] وهكذا في سائر القرآن إلا في سورة مريم والقلم؛ حيث أتبع الحروف المقطعة في سورة مريم في قوله: ﴿كهيعص (١)﴾ بقوله: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢)﴾ [مريم: الآيتان ١، ٢] وقال في القلم: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١)﴾ [القلم: آية ١] مع أن هذه يُحتمل أن المراد بـ ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ هو هذا القرآن العظيم؛ لأنه أعظم ما يُسطر، فيكون في مريم فقط.
وقوله: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [لأعراف: الآية ٢] أكثر العلماء على أن الكتاب خبر مبتدأ محذوف (١)، وحذف المسند إليه إذا دل المقام عليه نوع من الإيجاز معروف مقبول في النحو وفي المعاني، لا اختلاف فيه، وهذا هو الأظهر، أن قوله: ﴿كِتابٌ﴾ خبر مبتدأ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٩٥)، الدر المصون (٥/ ٢٤١).
فقوله: «اطبخوا لي جبة» يعني: خيطوا لي جبة، فأطلق الطبخ وأراد الخياطة - والطبخ أجنبي من الخياطة - للمشاكلة بينهما. والتحقيق أنه هنا لا مشاكلة، وأن الله ذكر مكره وحده ولم يذكر مكر عبده كما قال هناك: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: آية ٣٠] ذكر مكرهم ومكره، وهنا ذكر مكره وحده. ولذا قال: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾ [الأعراف: آية ٩٩].
والتحقيق أن المكر صفة أطلقها الله على نفسه، ولا يجوز إطلاقها على الله إلا في الموضع الذي يُطلقها هو على نفسه أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع جميع العلماء أنه لا يجوز أن يُشتق له منها اسم، فلا تقل: من أسمائه الماكر؛ لأن ذلك لا يجوز إجماعًا.
ومعنى (مكر الله) أنه (جل وعلا) يستدرجهم ويغدق عليهم النعم والصحة والعافية حتى يكونوا أغفل ما كانوا، ثم يأخذهم بغتة ويهلكهم في غاية الغفلة، وهذا فعل أحسن ما يكون وأبلغ ما يُتصور، وقد ضربوا مثلاً -ولله المثل الأعلى- قالوا: لو فرضنا أن هنالك رجلاً شديد البلية على الناس، يقتل هذا، ويظلم هذا، وجميع الناس في غاية التأذِّي منه، ثم إن رجلاً صالحًا كريمًا طيبًا احتال عليه بحيلة شريفة، حتى قتله وأراح الناس منه، فكلهم يقول: جزاك الله خيرًا، والله إن قَتْلَك له في صورة خفاءٍ إنه أحسن ما يكون.
وعلى كل حال فالله لا يصف نفسه إلا بما هو في غاية الحسن والجمال واللياقة، فوصف نفسه هنا بأنه يهلك الكافرين بمكره، وأن كيده متين كما قال: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾ [الأعراف: آية ١٨٣] ونحن قد قدمنا لكم في هذه الدروس مرارًا - وكررناه
دينه (١)، يعني: قاتلوهم حتى ينتشر الإسلام، وتنكسر شوكة الكفر، بحيث لا يقدرون على رد إنسان عن دينه، ولا قتل إنسان ولا ضربه ولا إيثاقه بسبب الإسلام؛ لأنهم كانوا في أول الإسلام يفتنون الضعفاء عن دينهم، فكان أمية بن خلف -قبحه الله- يعذب بلالاً فيُضْجعه في نهار الصيف في رمضاء مكة، فيضع الحجارة على صدره ويعذبه ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: أحد أحد.
وكذلك أوذوا كثيراً، فقُتل في ذلك أبو عمار بن ياسر وأمه، وأما هو فلما أرادوا أن يفعلوا به ذلك وخاف القتل قال كل ما يريدون منه، فَسَبَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي -إن شاء الله- إيضاح قصته في الآية النازلة به في سورة النحل في قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ الآية [النحل: الآية ١٠٦]. وهذا معنى قوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: الآية ٣٩] والقول الأول يدخل فيه هذا؛ لأنه إذا انتفى الشرك لا يكون هناك كافر يَفْتِنُ المسْلِمِينَ عَنْ دينهم، وهذا معنى قوله: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾.
﴿فَإِنِ انتَهَوْا﴾ عن كُفْرِهِم وأسْلَمُوا: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فهو بصير بعملهم يجازيهم عليه، ﴿وَإِن تَوَلَّوْا﴾ [الأنفال: الآية ٤٠] أعرضوا ولم يرجعوا عن كفرهم ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿مَوْلاَكُمْ﴾ ناصركم عليهم، لا يحزنكم توليهم وإعراضهم وإصرارهم على الكفر، فالله مولاكم ناصركم
_________
(١) البخاري في التفسير، باب: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ﴾، حديث رقم: (٤٦٥٠) (٨/ ٣٠٩)، وانظر الحديث بعده رقم: (٤٦٥١).


الصفحة التالية
Icon