الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية ٢٥٤]، وقال: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: آية ١٠٦] وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ - ﷺ - أنه فَسَّرَ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: آية ٨٢]، أي: بِشِرْكٍ (١). وقال جل وعلا عن العبدِ الصالحِ لقمانَ الحكيمِ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: آية ١٣]. هذا معنَى الظلمِ في لغةِ العربِ، ومنه قِيلَ لمن يضربُ لَبَنَهُ قبل أن يروبَ: ظالمٌ؛ لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ موضعِه؛ لأن ضَرْبَهُ قبل أن يروبَ يُضَيِّعُ زُبْدَهُ. وفي لُغَزِ الحريريِّ: هَلْ تجوزُ شهادةُ الظالمِ؟ قال: نعم، إذا كان عَالِمًا (٢).
يعني بالظالمِ: الذي يضربُ لَبَنَهُ قبلَ أن يروبَ. ومن هذا المعنى قول الشاعر (٣):

وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ
يعني بصاحبِ الصدقِ الذي لم تَرِبْهُ شَكَاتُه في ظلمِه إياه: سقاء له، ضَرَبَهُ قبلَ أن يروبَ. ومن هذا المعنى قولُ الشاعرِ (٤):
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ
_________
(١) البخاري، كتاب الأنبياء، باب: قول الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ حديث رقم (٣٣٦٠) (٦/ ٣٨٩)، وأخرجه في مواضع أخرى من صحيحه، انظر: الأحاديث: (٣٤٢٨، ٤٦٢٩، ٤٧٧٦، ٦٩١٨، ٦٩٣٧). ومسلم، كتاب الإيمان، باب: صدق الإيمان وإخلاصه. حديث رقم: (١٩٧) (١/ ١١٤).
(٢) مقامات الحريري مع شرح الشريشي (٣/ ١٤٨) في المقامة الثانية والثلاثون.
(٣) انظر: اللسان (مادة: ظلم) (٢/ ٦٥٠).
(٤) المصدر السابق.
وصفاتِه، مَنِ اسْمُهُ الكريمُ واللطيفُ وغيرُ ذلك من أسماءِ الكرمِ والجودِ، وقَدَّرَ في أَزَلِهِ أن يخلقَ آخَرِينَ مَطْبُوعِينَ على القذارةِ والنجاسةِ؛ ليظهرَ فيهم بعضُ أسرارِ أسمائِه كالقهارِ، يظهرُ فيهم قَهْرُهُ وجبروتُه وعظمتُه وشدةُ عقابِه؛ ليجتمعَ للناسِ الخوفُ والطمعُ؛ لأنه لو كان خَوْفٌ لا طَمَعَ معه فقد يكونُ هنالك بُغْضٌ، وإن كان طَمَعٌ لا خوفَ معه فقد يكونُ هنالك أَمْنٌ يحملُ على الدَّلاَلِ وسوءِ الأدبِ، فَخَلَقَ بعضَ الخلقِ وقَدَّرَ لهم الشقاءَ الأَزَلِيَّ، لِمَا جَبَلَهُمْ عليه من الْخُبْثِ، ليظهرَ فيهم بعضُ أسرارِ أسمائِه وصفاتِه مِنْ قَهْرِهِ وَمُلْكِهِ وقوةِ بطشِه وإنصافِه، وقَدَّر لقومٍ آخَرِينَ الْهُدَى لِيُظْهِرَ فيهم بعضَ أسرارِ أسمائِه وصفاتِه من رحمتِه وفضلِه ولطفِه وكرمِه. ولكنَّ قدرةَ الله وإرادتَه صَرَفَتْ قُدرَ الخلقِ وإراداتِهم إلى ما شاءَه اللَّهُ وقَدَّره في أَزَلِهِ، فَأَتَوْهُ طَائِعِينَ. فَاللَّهُ (جل وعلا) بقدرتِه وإرادتِه يصرفُ قدرةَ العبدِ وإرادتَه إلى ما سَبَقَ به الكتابُ في علمِه الأَزَلِيِّ، فَيَأْتِيهِ طَائِعًا: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: آية ٣٠].
هذا هو أصلُ هذه المسألةِ. فَاللَّهُ يشاءُ وَيُقَدِّرُ ويصرفُ قُدَرَ العبادِ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأزليُّ، فيأتوه طَائِعِينَ. وله المثلُ الأَعْلَى، والحكمةُ البالغةُ في كُلِّ مَا يُقَدِّرُ.
ولاَ يَخْفَى أن الْجَبْرِيِّينَ الذين يقولونَ: إن العبدَ لا فِعْلَ له، وإنما هذا فعلُ اللَّهِ!! لو جئتَ إلى جَبْرِيٍّ وَفَقَأْتَ عينَه، أو قَتَلَتْ وَلَدَهُ، أو أتلفتَ مالَه، وقلتَ له: أنا مسكينٌ لاَ فِعْلَ لِي؛ لأَنَّ هذا فعلُ اللَّهِ!! لا يقبلُ مِنْكَ هذا العذرَ، ويقولُ: أنتَ الذي فعلتَ وفعلتَ. وينتقمُ منكَ غايةَ الانتقامِ، وَلَكِنَّهُ بالنسبةِ إلى التكاليفِ يتعللُ هذا التعللَ الباطلَ. فَكُلُّ شيءٍ في الكونِ لاَ يقعُ في العالمِ تَحْرِيكُهُ
يعني: أن مَنْ رَزَقَهُ اللهُ نُورَ العقل فَقَدْ فَازَ بالمطلوب الأكْبَر الذي يطلبه كل إنسان؛ لأن العقل يعقل صاحبه عن كل ما لا ينبغي، ويحجزه عن كل ما يَشِين، ومنه بهذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: آية ١] فهو محتمل للمعنيين أيضاً، والفلاح في جميع القرآن محتمل للمعنيين المذكورين:
الأول: هو ما ذكرنا: أنه الفوز بالمطلوب الأكبر.
الثاني: أن المراد بالفلاح: الدوام والبقاء السَّرْمَدِي في النعيم، فكل من كان له دوام وبقاء في النعيم تقول العرب: نَالَ الفَلاحَ. وهذا المعْنَى معروف في كلامهم. ومنه قول الأضبط بن قريع، أو كعب بن زهير على أحد القولين (١):
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمُومِ سَعَهْ وَالمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ
يعني: أن تعاقب الليل والنهار لا بقاء للإنسان في دار الدنيا معه، ومنه بهذا المعنى قول لبيد بن ربيعة في رجزه (٢):
لَوْ أَنَّ حَيّاً مُدْرِكَ الْفَلاَحِ لنَالَهُ مُلاعِبُ الرِّمَاحِ
يعني: لو كان إنسان خالداً لا يموت لنال الخلود ملاعب الرماح، يعني: عمه أبا براء عامر بن مالك، المعروف، أحد بني أم البنين الأربعة. وبهذين المعنيين فُسر حديث الإقامة والأذان (حي على الفلاح) قال بعض العلماء: حيّ: بمعنى هَلُمَّ وتعالوا إلى الفوز بالمطلوب الأكبر، وهو الجنة والسعادة ورضا الله؛ لأن أكبر أسباب ذلك الصلاة.
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١١) من سورة الأنعام.
أَفْكِهِ لها هو قلبها وجعل عاليها سافلها كما صرح الله به في قوله: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ [الحجر: آية ٧٤] وما جُعل عاليه سافله فقد أُفك، أي: قُلب حتى صار أعلاه أسفله. هذا أصل الإفك (١). ومعنى: (يأفكون) يختلقون ويكذبون ويفترون من أن هذه العصي والحبال أنها حيات حقيقية مثل العصا التي عند موسى. سماه إفكًا لأنه قلب [لحقيقة الأمر] (٢) وصرف له عن حقيقته الصحيحة إلى الكذب والافتراء.
ومعنى الآية الكريمة: أن سحرة فرعون لما جاءوا بذلك السحر العظيم أوحى الله إلى نبيّه موسى أن يلقي عصاه؛ ولذا قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ وصيغة الجمع للتعظيم؛ يعني: فألقى عصاه بأمر من الله ﴿فَإِذَا هِيَ﴾ فاجأ ذلك من العصا، إذا هي ﴿تَلْقَفُ﴾ أي: تبتلع جميع ما يأفكون. فلما ألقاها موسى من يده، وانقلبت إلى ذلك الثعبان العظيم، وجاءت بسرعة وقوة هائلة وعناد هائل، قال ابن زيد: كانت مناظرة موسى وسحرة فرعون في الإسكندرية من مصر، وكان ذَنَبُ العصا لما انقلبت حية وراء البحر كما يزعمون، والله أعلم.
وعلى كل حال فقد صرّح الله بأنها ابتلعت جميع ما في الميدان من الحبال والعصي. يقولون: انقلبت إلى ذلك الثعبان العظيم، وجاءت تبتلع ذلك الموجود حبلاً حبلاً، عصًا عصًا، تلتقم ذلك وتبتلعه ولا يظهر في ضخم جثتها ولا يزيد فيها حتى تركت الميدان
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأعراف.
(٢) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
الجبل، فلما الْتَحَمَ القِتَالُ في المرة الأولى، وهلك حملة اللواء مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وانهزم المشركون هزيمة منكرة، ترك الرماة أمر رَسُول الله ﷺ لمصالحهم الشخصية، وهي الانتفاع بمال الغنيمة، فقال لهم رئيسهم عبد الله بن جبير (رضي الله عنه): أما أنا فلا أخالف قول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وبقي معه نَفَرٌ قَلِيل. والآخرون راحوا يطلبون الأغراض الشخصية الدنيوية، وتَرَكُوا أمْرَ الرَّسُول. فنَظَرَ المُشْرِكُونَ فَإِذا الجَبَلُ ليس دونه رجال، فجاءوا مِنْ سَفْحِ الجَبَلِ وأتوهم مِنْ وَرَاءِ ظهورهم، ودارت عليهم رَحَى الحرب، وأوقع الله ما أوقع بالمسلمين، كما قَصَّهُ في سورة آل عمران في يوم أحد، قُتل مِنْ خِيَارِ الأنْصَار سبعون رجلاً، وقُتل عَمّ رَسُول الله ﷺ أسَد الله حمزة بن عبد المطلب، وقُطِعَ أنْفُهُ وأذُناه، وأُخذ بعض كبده لهِنْد بِنْت عُتْبة، وقُتِلَ ابْنُ عمته عبد الله بن جحش، وقتل حامل رايته مُصْعَب بن عمير العَبْدَرِي (رضي الله عنه). وشَمَّاس بن عثمان المخْزُومِيّ، وأوقع الله ما أوْقَع بسبب تلك الأغراض الشخْصيَّة وتقديمها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجُرح ﷺ وشُقَّت شَفَتُهُ السُّفْلَى اليُمْنَى، وكُسِرَتْ رَبَاعيَّته، وشُجَّ حتى غَاص في جَبْهَتِهِ بعض حِلَق المغفر الذي هو على رأسه، وانْتَزَعَهُ أبو عبيدة بن الجراح (رضي الله عنه) فسقطت معه ثنيتاه العلييان لقوته، فكان أثرم (رضي الله عنه)، أي: ساقط الثنيتين. لما وقع هذا استشكله أصحاب رَسُول الله ﷺ هذا الاستشكال، وقالوا: كيف يُدال منا المُشْرِكُون، وتكون لهم دولة عَلَيْنَا، ويقتلوننا ويجْرَحُونَنا وفِينَا رَسُول الله ﷺ ومعنا الحَق؟ فهذا هو وجه الإشكال.
فأفْتَى اللهُ بِإِزَالة هذا الإشكال فتوى سماويَّة، قرآناً يُتْلَى في آل عمران، قال:


الصفحة التالية
Icon