[٢/أ] / ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: الآيات ٥٤ - ٥٦].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)﴾
[البقرة: آية ٥٤] أي: وَاذْكُرُوا ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى﴾ حِينَ قال موسى ﴿لِقَوْمِهِ﴾ أي: بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أصلُه: (يَا قَوْمِي) منادى مضافٌ إلى ياءِ المتكلمِ، وَحُذِفَتْ ياءُ المتكلمِ اكتفاءً عنها بالكسرةِ (١). وفي المنادى المضافِ إلى ياءِ المتكلمِ إن كان صحيحَ الآخِرِ خمسُ لغاتٍ (٢)، كلها صَحِيحَةٌ، أكثرُها حَذْفُ ياءِ المتكلمِ كما في هذه الآيةِ. وتلك اللغاتُ عَقَدَهَا في الخلاصةِ بقولِه (٣):

واجْعَلْ مُنَادَىً صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا
أصلُه: يا قَوْمِي.
﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ قَدَّمْنَا معنى الظُّلْمِ (٤) بشواهدِه العربيةِ، ومعناه في القرآنِ، وقد جاء في القرآنِ في موضعٍ
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٠).
(٢) في القرطبي (١/ ٤٠٠)، والدر المصون (١/ ٣٩) (ست لغات). وانظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٢١٧ - ٢١٨).
(٣) الخلاصة ص٥١، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ١٥٦)، التوضيح والتكميل (٢/ ٢١٧ - ٢١٨).
(٤) مضى عند تفسير الآية (٥١) من هذه السورة.
الْعُقُوقِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ». قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وهل يشتمُ الرجلُ وَالِدَيْهِ؟ قال: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» (١)، هذا الحديثُ الصحيحُ سَمَّى [به] النبيُّ - ﷺ - (٢) ذريعةَ السبِّ: (سَبًّا) وهو كالآيةِ يدلُّ على أن ذريعةَ الحرامِ حَرَامٌ.
النوعُ الثاني من أنواعِ الذرائعِ الثلاثِ: نوعٌ لاَ يَجِبُ سَدُّهُ بإجماعِ المسلمين، فهو ذريعةٌ يَجِبُ إهدارُها وإلغاؤُها، ولا يجبُ سَدُّهَا بإجماعِ المسلمين. وهذا النوعُ من الذرائعِ نَوْعَانِ:
أحدُهما: أن يكونَ الفسادُ بَعِيدًا فيه، والمصلحةُ أرجحَ من الفسادِ فيه. ومثالُ هذا النوعِ: غَرْسُ شجرِ العنبِ. فَإِنَّ غرسَ شجرِ العنبِ ذريعةٌ إلى عصرِ الخمرِ التي هي أُمُّ الخبائثِ، قَبَّحَهَا اللَّهُ، وَقَبَّحَ شَارِبَهَا، إلا أن الذين يعصرونَ الخمرَ من المجتمعِ ويشربونَه قِلَّةٌ في أقطارِ الدنيا، فمنفعةُ انتشارِ العنبِ والزبيبِ في أقطارِ الدنيا مصلحةٌ عُظْمَى أُلْغِيَ من أجلِ هذه المصلحةِ المفسدةُ التي قد تكونُ من شجرِ العنبِ بعصرِ الخمرِ منه؛ لأَنَّ الذي يَعْصِرُهَا أفرادٌ قليلونَ ويشربونها، ولو ضَاعَتْ عقولُهم بسببِ شُرْبِهَا فمصلحةُ العالمِ الْعَامَّةُ بوجودِ العنبِ والزبيبِ في أقطارِ الدنيا أعظمُ من هذه المفسدةِ الجزئيةِ، فأُلْغِيَتْ هذه الذريعةُ وَأُهْدِرَتْ.
_________
(١) البخاري، كتاب الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه، حديث رقم (٥٩٧٣)، (١٠/ ٤٠٣)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها. حديث رقم (٩٠)، (١/ ٩٢)، وصدر الحديث عند البخاري: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ». وعند مسلم: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ».
(٢) في الأصل: «سمى النبي صلى الله عليه - به - وسلم سمى... ». وهو سبق لسان.
جمع آية، وأن أكثر علماء الصرف على أن وزنها (فَعَلَة)، وأن أصلها (أَيَيَة) فاؤها همزة، وعينها ياء، ولامها ياء، بعدها هاء تأنيث لفظية. وقد اجتمع فيها موجبَا إعلال؛ لأن فيها حرفي لين كل منهما متحرك بِحَرَكَةٍ أصلِيَّةٍ بعد فتح، فالياءان كل منهما تستوجب إعلالاً، والمقرر في علوم العربية: أنه إذا اجتمع موجِبَا إعلال كان الحرف [الأخير هو الذي وقع فيها الإعلال، ولكنه وقع هنا في الحرف الأول على خلاف القاعدة الكثيرة المطردة، وهو جائز.
وقيل: أصلها: (أَيَاه) ولكن الإعلال وقع هنا في الحرف الأول فصار (آية)، ولها في اللغة معنيان:
المعنى الأول: بمعنى (العَلامة)، تقول العرب: الآية بيني وبينك كذا؛ أي: العلامة بيني وبينك كذا. ومنه قوله تعالى:] (١).
[٣/ب] / ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أي: علامة ملك طالوت عليكم ﴿أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ الآية [البقرة: آية ٢٤٨] وهذا معروف في كلام العرب، وقد جاء في شعر نابغة ذبيان -وهو جاهلي عربي قُح- تفسير الآية بالعلامة حيث قال (٢):
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامِ سَابِعُ
ثم بيَّن أن مراده بالآيات: علامات الدار؛ حيث قال بعده:
رَمَاد كَكُحْلِ العينِ لأْياً أُبينُهُ وَنُؤْيٌ كَجِذمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
_________
(١) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل. وتم استدراك النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) في موضع سابق عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام (بتصرف).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة.
ومعنى قوله: ﴿مِّنْ خِلاَفٍ﴾ أي: من جهتين مختلفتين بأن يقطع اليد اليمنى من شِق فيضعف ذلك الشِّق باليد [ويقطع] (١) الرجل اليسرى من الشق الآخر فيكون كل من الشّقين قد ضعف.
﴿ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لم يبيّن هنا في الأعراف ولا في الشعراء ماذا الذي يصلبهم عليه، وقد بيّن في سورة طه أنه يصلبهم في جذوع النخل (٢) كما قال: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه: آية ٧] وجذع النخل هو أخشن جذع من جذوع الشجر خلقه الله -جل وعلا- وأصعب على المصلوب الصلب عليه. وعلماء البلاغة يقولون: إن قوله: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: آية ٧١] فيه ما يسمونه (استعارة تبعية) في معنى مُتَعَلَّق الحرف (٣). والأظهر أنه أسلوب عربي معروف، فالعرب تقول: صلبه على الجذع، وصلبه فيه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومن قولهم: «صلبه في الجذع» قول الشاعر (٤):
همو صلبوا العَبْديَّ في جِذْعِ نخْلةٍ فلا عطستْ شيبانُ إلا بأَجْدَعَا
وهذا معنى قوله: ﴿ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٢٤] لأصلبنكم في جذوع النخل أجمعين.
وهذا يدل على أن أولياء الله يُمتحنون دائمًا في الله، فخير ما تكون به المحنة: المحنة في الله، فعلى المسلم إذا بُلي في دينه
_________
(١) في الأصل: «ويضعف». وهو سبق لسان.
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٣٣٠).
(٣) انظر: جواهر البلاغة ص٢٤٨.
(٤) البيت في اللسان (مادة: فيا) (٢/ ١١٥٨).
وإن شِفائي عَبْرةٌ إن سَفَحْتُها وهلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
لأن الشطر الأول خبر، والشطر الثاني إنشاء، وهو معطوف عليه. ونظيره قول الآخر (١):
تُنَاغي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ وكَحِّلْ مَآقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ
وهو عطف إنشاء على خبر، وهذا هو الصواب.
﴿وَلاَ تَكُونُواْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٧] أيها المؤمنون كالكفرة الفجرة أصحاب الفخر والخيلاء والرياء، فإن الفَخْرَ والخيلاء والرياء أوْصَاف ليست بأوصاف المسلمين، وليست بأوصاف المُقَاتِلِينَ النَّاجِحِينَ الظَّافِرِينَ في الميدان ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم﴾ هم كفار مكة، وهم نفير الجيش الذي الْتَقوا مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِإِجْمَاعِ المُفَسِّرِينَ خرجوا من ديارهم في مكة المكرمة -حرسها الله- ﴿بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ﴾ أي: لأجل البطر ومراءاة الناس، وقال بعضهم: هو مصدر مُنكّر بمعنى الحال. خرجوا في حال كونهم متصفين بالبطر والرياء. وكونه مفعولاً لأجله أظهر (٢).
البطر في لغة العرب: هو التكبر عن قبول الحق مع غَمْطِ الحقوق. وتكبرهم هذا المشار إليه هنا هو الذي بَيَّنَّا في قصة أبي جهل (٣)؛ لأن الكفار لما كانوا بالعدوة القصوى من بدر، وأرسلوا عمير بن وهب الجمحي (رضي الله عنه) -وكان إذ ذاك كافرًا- وقالوا له: احزر لنا القوم. فجاء فحزرهم، فقال: القوم
_________
(١) البيت لحسان (رضي الله عنه)، وهو في ديوانه ص٨٣، وله روايات متعددة.
(٢) انظر الدر المصون (٥/ ٦١٦)
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥) من سورة الأنفال.


الصفحة التالية
Icon