وكثيرًا ما يُطْلَقُ اسمُ الخلقِ على الإبرازِ من العدمِ إلى الوجودِ. وعلى كُلِّ حالٍ فمعنى (البارئِ): المبدِعُ الذي يَبْرَأُ الأشياءَ، أي: يُبْرِزُهَا من العدمِ إلى الوجودِ.
وفي الآيةِ سِرٌّ لطيفٌ (١)، وهو أن مَنْ أَبْرَزَ من العدمِ إلى الوجودِ هو الذي يستحقُّ أن يُعْبَدَ، ويُتابَ إليه من الذنوبِ؛ لأن عنوانَ استحقاقِ العبادةِ إنما هو الخلقُ، فَمَنْ يخلقُ ويُبْرِزُ من العدمِ إلى الوجودِ فهو المعبودُ الذي يُعْبَدُ وحدَه، ويُتَنَصَّل إليه من الذنوبِ، وَمَنْ لا يخلقُ فهو مربوبٌ محتاجٌ إلى خالقٍ يخلقُه؛ ولذا كَثُرَ في القرآنِ الإشارةُ إلى أن ضابطَ مَنْ يَسْتَحِقُّ العبادةَ هو الخالقُ الذي يُبْرِزُ من العدمِ إلى الوجودِ، كما تَقَدَّمَ في قولِه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: آية ٢١]، وكما في قولِه: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: آية ١٦]، وخالقُ كُلِّ شيءٍ هو المعبودُ وحدَه. وقال جل وعلا: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: آية ١٧]، الجوابُ: لاَ. وهذا معنى قوله: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾.
وقرأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ وعن أبي عمرٍو فيه روايتانِ عنه: قراءةُ: ﴿إِلَى بَارِئْكُمْ﴾ بإسكانِ الهمزةِ، وعنه قراءةٌ أُخْرَى رَوَاهَا عنه الدُّورِيُّ باختلاسِ الهمزةِ، واختلاسُ الهمزةِ: هو تخفيفُ حركتِها حتى يأتيَ ببعضِ الحركةِ ولا يأتي بها كَامِلَةً، وهذه الروايةُ الأخيرةُ روايةُ الدُّوريِّ عن أبي عمرٍو هي التي بها الأخذُ، والمشهورةُ عندَ القراءِ (٢). وما زَعَمَهُ بعضُ علماءِ العربيةِ
_________
(١) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٠٧)، تفسير أبي السعود (١/ ١٠٢).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٢٩.
[عدمِ] (١) سَدِّهِ، وَهُمَا طَرَفَانِ وواسطةٌ، طرفٌ من الذرائعِ يجبُ سَدُّهُ إِجْمَاعًا، مَثَّلْنَا له بِسَبِّ الأصنامِ إن كان عَبَدَتُهَا يَسُبُّونَ اللَّهَ، وكحفرِ الآبارِ في طرقِ المسلمينَ، وإلقاءِ السمِّ في مشاربِهم وَمَآكِلِهِمْ. هذا النوعُ يجبُ سَدُّهُ إجماعًا، ونوعٌ لا يجبُ سَدُّهُ إجماعًا، كما مَثَّلْنَا له بغرسِ شجرِ العنبِ، وَمُسَاكَنَةِ الرجالِ والنساءِ في البلدِ الواحدِ. وواسطة هي مَحَلُّ الخلافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
ومثالُ هذه الواسطةِ التي هي مَحَلُّ الخلافِ بينَ العلماءِ: البيوعُ المعروفةُ بالفقهِ المالكيِّ ببيوعِ الآجالِ التي يُسَمِّيهَا الحنابلةُ والشافعيةُ: بيوعِ الْعِينَةِ، فهذه ذريعةٌ لِمُحَرَّمٍ، والعلماءُ مُخْتَلِفُونَ فيها، كما لو بَاعَ إِنْسَانٌ سلعةً إلى أَجَلٍ معينٍ بعشرةِ دراهمَ مثلاً، ثم اشْتَرَاهَا بثمنٍ أكثرَ لأبعدَ من الأولِ، أو بثمنٍ أقلَّ من الثمنِ الأولِ بدونِ الأَجَلِ، فإن ظاهرَ هاتين الْبَيْعَتَيْنِ أن كلاًّ منهما بيعةٌ لسلعةٍ بثمنٍ إلى أَجَلٍ، وهي في ظاهرِها جائزةٌ، إلا أنها يمكنُ أن تكونَ ذريعةً إلى رِبًا مُحَرَّمٍ؛ لأن السلعةَ الخارجةَ من اليدِ، العائدةَ إليها مُلْغَاةٌ، فَيَؤُولُ الأمرُ إلى أنه أخذَ أولاً خمسةَ دراهمَ، ثم أَخَذَ عنها في الأجلِ الثاني عشرةَ دراهمَ، وأَخْذُ عشرةٍ مؤجلةٍ بدلَ خمسةٍ هُوَ رِبَا الجاهليةِ بِعَيْنِهِ.
فهذه الذريعةُ الْوُسْطَى ذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى وجوبِ سَدِّهَا، وهو مذهبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وأصحابِه، وهو مذهبُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وأصحابِه، وهو مذهبُ أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ (رَضِيَ اللَّهُ عنها).
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
الدنيا من أنواع الإنعام إنعاماً عظيماً ينبغي لهم أن يشكروا له ذلك الإنعام، وأن لا يستعينوا بإنعامه على معصيته، فإن من أعظم أنواع اللؤم والخساسة أن ينعم علينا رب السماوات والأرض العظيم الأعظم بنعمه الكثيرة ثم نستعين بها على معصيته وما لا يرضيه!! هذا مِنْ أَقْبَحِ القبيح، وأشنع الشنيع الذي لا ينبغي لأحد أن يفعله.
وقد نَبَّهَنَا في هذه الآيات على بعض الإنعام الذي أنعم علينا قال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [الأعراف: آية ١٠] والله لقد مكناكم في الأرض؛ أي: جعلناكم متمَكِّنِينَ فيها، مُتَصَرِّفِين قادرين على استجلاب المعايش والرفاهية والراحة بما هيأنا لكم من الأسباب، جعلنا لكم الأرض ساكنة قابلة؛ لأن تبنوا عليها، وتبنوا منها البيوت التي هي هنيّة لذيذة للمقام، ثم جعلناها قابلة لأنواع الازدراع لتزرعوا فيها ما تأكلون وما تلبسون، ثم خلقنا لكم الأنعام، وذللناها لكم، فمنها ركوبكم ومنها تأكلون، أنبتنا لكم فيها الأصواف والأوبار والأشعار لتلبسوا منها، وجعلنا لكم لحومها لتأكلوا منها، وأسمانها، وألبانها، وأزبادها، وجعلنا لكم الحديد لتستعينوا به على أمور دنياكم وفلاحتكم، إلى غير ذلك من سائر الأسباب والتمكين الذي مكنه لنا في الدنيا.
وقال بعض العلماء: (مكناكم فيها) أي: جعلنا لكم فيها أمكنة تسكنون بها في الدنيا ذاهبين وراجعين. والله جعل لنا الأرض تضمُّنَا على ظهرها أحياء، وفي بطنها أمواتاً كما يأتي في قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (٢٥) أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً (٢٦)﴾ [المرسلات: الآيتان ٢٥، ٢٦] ﴿كِفَاتاً﴾ أي: محلاً لكفتكم. أي: ضمكم. والكَفْت في لغة
الْمُؤْمِنِينَ (٥١)} [الشعراء: آية ٥١] فالمؤمن الحق إذا علم ما عند الله من النعيم والثواب هان وصغر في عينه كل عذاب وبلاء في الدنيا، كما قالوا لفرعون: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: آية ٧٢] أي: وليس فيها شيء يهم [لسرعة زوالها] (١) وانقضائها. فهذا معنى قوله: ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٢٥].
هذا الانقلاب ينقلب به كل أحد كائنًا ما كان، فينبغي لكل إنسان أن يُحسِّن منقلبه إلى الله؛ لأن الله يقول: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: آية ٢٢٧] فمعنى: ﴿مُنقَلِبُونَ﴾ أنهم يموتون فيبعثون فيُقلبون إلى الله، يرجعون إليه فيجازيهم، هذا معنى قوله: ﴿قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (١٢٥)﴾ [الأعراف: آية ١٢٥].
ثم بيّنوا لفرعون أنه ظالم لهم وليس لهم ذنب يعيبهم به ولا يعذبهم لأجله، وقالوا: ﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّا﴾ العرب تقول: (ما تنقم مني)؟ معناه: ما تعيب مني وما تَنْتَقِدُ مِنيِّ؟ وأقوال علماء التفسير متقاربة (٢)، كلها راجعة إلى شيء واحد، فبعضهم يقول: ﴿وَمَا تَنقِمُ﴾ ما تعيب منا؟ ما تُنكر منا؟ ما تكره منا؟ ونحو ذلك، فهي أقوال معروفة، والعرب تقول: نقم عليّ فلان كذا ونَقِمَهُ. أي: انتقده وأنكره عليَّ وكرهه مني. فكأنهم يقولون لفرعون: ما تعيب وتكرهه منا وتنكره حتى تجعله سببًا لتعذيبنا إلا أعظم الأشياء وأحسنها وأشدها استجلابًا للمودة والمحبة، فهو الإيمان بالله أي: ﴿إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ يعني: ما تعيب علينا شيئًا ولا تكره منّا شيئًا فعلناه
_________
(١) في الأصل: «لزوال سرعتها». وهو سبق لسان.
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٥)، القرطبي (٧/ ٢٦١).

وَفِي بِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَصُدُّ وجُوهَهُم جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ
صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: ﴿كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هذه (صدَّ) المتعدية (١)، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه، أي: يصدون الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والسبيل في لغة العرب (٢): الطريق، وهي تُذكّر وتُؤنَّث. وجاء في القرآن تذكير السبيل في قوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ [الأعراف: الآية ١٤٦] ولم يقل: يتخذوها. ومن تأنيثها في القرآن قوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: الآية ١٠٨] ولم يقل: هذا سبيلي، وقوله: ﴿تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ﴿تَبْغُونَهَا﴾ [آل عمران: الآية ٩٩] يعني السبيل كما هو معروف. وسبيل الله: دين الإسلام، وإنما قيل له: سبيل الله لأنه الطريق التي شرعها الله، وأصّل أصولها، وأمر بالسير عليها، ووعد من سار عليها الجنة، ومن تَجَنَّبَهَا النار. فلذلك كانت سبيله؛ لأنه الذي شَرَعَها، وأمر بسلوكها، ووعد من سلكها الخير، ومن لم يسلكها الشر؛ ولذا أضيفت إليه فقيل لها: سبيل الله، ولذا قال: ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾ جل وعلا بكل ما ﴿يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ لأنه (جل وعلا) محيط بكل شيء. وفيه تهديد ووعيد لهم، فقد أحاط بهم وبأعمالهم، ومكّن منهم نبيه ﷺ فقتل رؤساءهم وأَسَرَهُمْ كَمَا قَدّمْنَا إيضاحه. وهذا معنى قوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: الآية ٤٧].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف.
(٢) مضى عند تفسير الآيتان (٥٥، ١١٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon