الأَلِفَ واللامَ تفيدُ العمومَ، والإضافةُ إلى المعارفِ تفيدُ العمومَ (١)، وما صار عَامًّا استحالَ أن يقالَ هو جمعُ قِلَّةٍ؛ لأن العمومَ يستغرقُ جميعَ الأفرادِ. هذا هو التحقيقُ. وهذا معنى قولِه: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ﴾ في مرجعِ الإشارةِ في قولِه: ﴿ذَلِكُمْ﴾ وجهانِ للعلماءِ لا يُكَذِّبُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ (٢)، أحدُهما: أنه راجعٌ إلى مصدرِ القتلِ المفهومِ من قولِه: ﴿فَاقْتُلُوا﴾ أي: ذلك القتلُ لأنفسكم خيرٌ لكم عند بارئكم، وقد قَرَّرَ علماءُ العربيةِ أن الفعلَ الصناعيَّ -أعني فعلَ الأمرِ، أو الفعلَ المضارعَ، أو الماضيَ- ينحلُّ عن مصدرٍ وزمنٍ، فالمصدرُ كامنٌ في مفهومِه إجماعًا (٣). قالَ في الخلاصةِ (٤):

الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ
ونحنُ نرى القرآنَ يلاحظُ المصدرَ تارةً، ويلاحظُ الزمنَ تارةً. فَمِنْ أمثلةِ ملاحظتِه للمصدرِ: ﴿عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ﴾ [المائدة: آية ٨] أي: العدل الكامن في مفهومِ ﴿اعْدِلُوا﴾، وتارةً يُلاَحِظُ الزمنَ، ومن أمثلةِ ملاحظتِه لزمانِ الفعلِ الصناعيِّ قولُه (جل وعلا) في (ق): ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ [ق: آية ٢٠]، فالإشارةُ في قولِه: ﴿ذَلِكَ﴾ لزمنِ النفخِ المفهومِ من بناءِ الفعلِ في قولِه: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾.
_________
(١) المصدر السابق (٣/ ١٠٨).
(٢) انظر: البحر المحيط لأبي حيان (١/ ٢٠٩).
(٣) انظر: الكليات ص٦٨٠.
(٤) الخلاصة ص٢٩، وانظر: شرحه في الأشموني (١/ ٣٦٤).
ولفظُ (الأمةِ) في قولِه هنا: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ أُطْلِقَ في القرآنِ العظيمِ أربعةَ إطلاقاتٍ، كُلُّهَا لغةٌ صحيحةٌ جَاءَ بِهَا القرآنِ (١):
أُطْلِقَتِ الأَمَةُ على الطائفةِ من الناسِ المتفقةِ في دِينٍ أو نِحْلَةٍ. وهذا أغلبُ استعمالاتِها، ومنه قولُه هنا: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ أَيْ: لِكُلِّ طائفةٍ من الناسِ متفقةٍ في دِينٍ أو نِحْلَةٍ. ومنه بهذا المعنى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾ [يونس: آية ٤٧] ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: آية ٢١٣].
الإطلاقُ الثاني في القرآنِ للأُمَّةِ: إطلاقُ الأمةِ على الرجلِ العظيمِ الْمُقْتَدَى به، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: آية ١٢٠] أي: إِمَامًا مُقْتَدًى به، كما قال اللَّهُ له: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقر ة: آية ١٢٤].
المعنى الثالثُ: هو إطلاقُ الأُمَّةِ على الْبُرْهَةِ من الزمنِ، القطعةُ من الدهرِ، والبرهةُ من الزمنِ تُسَمَّى: أمةً، ومنه في القرآنِ: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: آية ٤٥] أي: تَذَكَّرَ بَعْدَ بُرْهَةٍ من الزمنِ، ومنه بهذا المعنَى قولُه في أولِ هُودٍ: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾ [هود: آية ٨] أَيْ: إلى قطعةٍ من الزمنِ مُعَيَّنَةٍ.
الإطلاقُ الرابعُ: إطلاقُ الأُمَّةِ على الشريعةِ والدينِ؛ لأَنَّ العربَ تُسَمِّي الأمةَ شريعةً وَدِينًا (٢)، ومنه بهذا المعنَى قولُه: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: آية ٢٢] أي: على شريعةٍ وملةٍ وَدِينٍ،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٢) من هذه السورة.
(٢) لعله سبق لسان؛ إذ الأولى أن يقال: لأن العرب تُسمي الشريعة والدين (أمة). أو يقال: «لأن العرب تُطلق الأمة على الشريعة والدين». والله أعلم.
آية ١٤] ﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [النمل: آية ١٩] ومن شكر الرب لعبده قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)﴾ [البقرة: آية ١٥٨] وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: آية ٣٤] فمعنى شُكر العبد لربه: هو معناه في الاصطلاح. وأصل الشكر في لغة العرب: فعل يُنبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه مُنْعِماً.
والحمد في لغة العرب (١): هو الثناء بالثناء الجميل باللسان على المحمود بجميل صفاته، سواءً كان من باب الإحسان أو من باب الاستحقاق.
والحمد لغة: يطلق على الشكر اصطلاحاً، والشكر اصطلاحاً يطلق على الحمد لغة، فبينهما تَعَاوُرٌ وتعاقُبٌ.
والمراد بشكر العبد لربه: هو أن تظهر نِعْمَة ربه عليه، فَيُظهر تلك النعمة، ويستعمل جميع ما أنعم الله عليه في طاعة مَنْ خَلَقَهُ (جَلَّ وَعَلا) (٢). فهذه العيونُ التي تبصرون بها نِعَمٌ عظيمة أنعم الله عليكم بها، فشكر من خَلَقها عليها أن لا تنظروا بها إلا في شيء يُرْضِي من خَلَقها، فلا تَنْظُرْ أيها العبد بعينيك اللتين أنعم الله بهما عليك في شيء حَرَّمَهُ الله عَلَيْك، فتكون مستعيناً بنعمته على معصيته!! هذا فعل لا يليق، فعل خبيث، فعل يدل على لؤم صاحبه وحمقه وقلة عقله، وشكر هذه اليد التي أعطاك الله إياها، وفرّق لك
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
معناه: أذعنتُ وانقدتُ لمن أذعن له الريح والمزن والحجارة. هذا أصل معنى الإسلام في لغة العرب.
وهو في اصطلاح الشرع (١): الإذعان والانقياد التام من جهاته الثلاث، أعني: انقياد القلب بالاعتقاد والنيات، وإذعان اللسان بالإقرار، وإذعان الجوارح بالعمل. أي: توفَّنا منقادين لك ولطاعتك بقلوبنا وألسنتنا وجوارحنا حتى نلقاك وأنت راض عنا. وهذا معنى قوله: ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٢٦].
﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧)﴾ [الأعراف: آية ١٢٧].
لما وقع ما وقع وآمن السحرة لله حرّض أشرافُ جماعة فرعون حرضوا فرعون على موسى وقومه يريدون أن يقتلهم أو يُنكل بهم؛ ولذا قال الله عنهم: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ﴾ أي: أشراف جماعة فرعون قالوا لفرعون: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ﴾ (أتذر موسى) معناه: أتترك موسى وقومه الذين هم معه مؤمنون به وهم بنو إسرائيل، أتذرهم؛ أي: تتركهم لأجل أن يفسدوا في الأرض؟
وهذا الفعل الذي هو (تذر) لم يُسمع منه إلا مضارعه وأمره، تقول العرب: (ذر) بمعنى اترك. و (تذر) بمعنى: تترك. ولم يُسمع منه غير هذا (٢). فلم يأت من كلامهم فعل ماض، ولا مصدر، ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، فاسم فاعله: تارك. واسم مفعوله:
_________
(١) انظر: شرح الطحاوية ص٤٨٨.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة المائدة.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)﴾ [الفرقان: الآية ٣٠] قد فهمت من هذه الآية في سورة الفرقان أن التَّرْكَ فِعْلٌ؛ لأن الأخذ: هو التناول، والمهجور: المتروك، أي: تناولوه متروكاً. فدل على أن الترك فعل يُؤتى بالتناول، وهذا لا يظهر لي كل الظهور.
أما الآيتان اللتان عثرنا عليهما في سورة المائدة، الدالتان على أن الترك فعل من الأفعال:
فإحداهما قوله تعالى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ ثم قال: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: الآية ٦٣] إنشاء الذم بقوله ﴿بِئْسَ﴾ هنا متوجه على ترك الربانيين والأحبار النهي، وقوله: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ أي: بئس ما يصنعه الربانيُّونَ والأحْبَار وهو تركهم. فسمّى تركهم الأمر بالمعروف صنعاً، والصُّنع أخَصّ من مُطْلَقِ الفِعْلِ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية، وهو نص صريح في أن الترك من الأفعال.
والآية الأخرى: قوله في المائدة أيضاً: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (٧٩)﴾ [المائدة: الآية ٧٩] وهو عدم تناهيهم عن المنكر، فسمّى تركهم التناهي عن المنكر (فعلاً) وذمه أيضاً بالفعل الجامد الذي هو لإنشاء الذَّمِّ أعني: (بئس) لأن (نِعْمَ) لإنشاء المدح، و (بئس) لإنشاء الذم، كما هو معروف في محله (١).
_________
(١) مضى عد تفسير الآية (٤٠) من سورة الأنفال.


الصفحة التالية
Icon