وقوله: ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الظاهرُ أنها هنا صيغةُ تفضيلٍ، وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ أن لفظةَ (خَيْرٍ وَشَرٍّ) حَذَفَتِ العربُ منها الهمزةَ في صيغةِ التفضيلِ لكثرةِ الاستعمالِ في الأغلبِ، كما عقده ابنُ مالكٍ في الكافيةِ بقوله (١):

وَغَالِبًا أَغْنَاهُمْ خَيْرٌ وَشَرّ عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّ
ووجهُ كونها هنا صيغةَ تفضيلٍ: أن هذا القتلَ بهذه التوبةِ يقطعُ حياتَهم الدنيويةَ، ولكنه يُكْسِبُهُمْ حياةً أخرويةً، وهذه الحياةُ الأخرويةُ خيرٌ من الحياةِ الدنيويةِ (٢)، وهذا معنى قوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ أي: ذلكم المذكورُ من توبتِكم وقتلِكم أنفسَكم خيرٌ لكم عند بارئِكم من عَدَمِهِ، أي: عند خالقكم ومبرزكم من العدمِ إلى الوجودِ.
وقوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ معطوفٌ على محذوفٍ دَلَّ المقامُ عليه، أي: فَامْتَثَلْتُمْ ما أُمِرْتُمْ به، وقدمتم أنفسَكم للقتلِ فتابَ عليكم (٣).
واختلف العلماءُ في كيفيةِ هذا القتلِ الذي أُمِرُوا به (٤)، قال بعضُ العلماءِ: كيفيةُ هذا القتلِ الذي أُمِرُوا به أن مَنْ لَمْ يَعْبُدِ العجلَ منهم أُمِرَ بأن يقتلَ مَنْ عَبَد العجلَ، وقيل: أُمِرُوا أن يقتلَ بعضُهم بعضًا، مَنْ عَبَدَ العجلَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ، وعلى هذا القولِ فَذَنْبُ مَنْ لَمْ يعبدِ العجلَ أنه لم يَنْهَهُمْ، ولم يُغَيِّرِ المنكرَ؛ لأن المنكرَ إذا وَقَعَ ولم يُغَيَّرْ عَمَّ العذابُ.
_________
(١) شرح الكافية الشافية (٢/ ١١٢١).
(٢) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٠٩).
(٣) المصدر السابق.
(٤) انظر: ابن جرير (٢/ ٧٣)، القرطبي (١/ ٤٠١)، ابن كثير (١/ ٩٢).
الصحيحين من حديثِ أبي بَكْرَةَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ». قالوا: يَا رسولَ اللَّهِ قد عَرَفْنَا القاتلَ، فما بالُ المقتولِ؟ يعنِي: بأي ذَنْبٍ دخلَ المقتولُ النارَ، وهو لم يَقْتُلْ أحدًا. فَبَيَّنَ النبيُّ - ﷺ - أن العملَ الذي دخلَ به النارَ هو عزمُه المُصَمِّمُ على قتلِ أَخِيهِ؛ ولذا قال مُجِيبًا لقولِهم: فما بالُ المقتولِ؟ قال لهم النبيُّ - ﷺ -: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ» (١).
فهذا الحديثُ المتفقُ عليه يُبَيِّنُ أن العزمَ المُصَمِّمَ الذي لم يَمْنَعْ صَاحِبَهُ منه إلا العجزُ عنه أنه فِعْلُ قلبٍ يُؤْخَذُ به صاحبُه، ويدخلُ به النارَ.
ومن هذا النوعِ هَمُّ امرأةِ العزيزِ، أما هَمُّ يوسفَ على القولِ به فهو مَيْلٌ طبيعيٌّ مَزْمُومٌ بالتقوى، فَبَيْنَ هَمِّهِ وهمِّهَا الفرقُ (٢).
ومن هذا الهَمِّ الذي لا يُؤَاخَذُ به: ما ثَبَتَ في الحديثِ الصحيحِ: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَامِلَةٌ» (٣)؛ لأنها خطراتٌ تخطرُ في القلبِ يَزُمُّهَا التقوى.
ومن ذلك النوعِ قولُه تعالى في بَنِي سلمةَ
_________
(١) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٢) في الفرق بين هَمّ يوسف (عليه السلام) وهَمّ امرأة العزيز كلام كثير للمفسرين، وأحسنه ما قاله الإمام أحمد (رحمه الله): «الهمُّ هَمَّان: همُّ خطرات، وهمُّ إصرار. فيوسف (عليه السلام) هَمّ همًّا تركه لله فأثيب عليه. وتلك همت همَّ إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها، وإن لم يحصل لها المطلوب» ا. هـ مجموع الفتاوى (٦/ ٥٧٤ - ٥٧٥)، وانظر: (١٠/ ٧٣٩ - ٧٤٠)، (١٥/ ١٥٠)، قواعد التفسير (١/ ٢٠٦ - ٢٠٧).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
الثواب الجزيل من عمله القليل، كما بيَّن أن العبد يَعْمَلُ حَسَنة واحدة فيجعلها الله عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله.
ومادة الشكر تتعدَّى بنفسها إلى المفعول إذا كان المفعول هو النعمة، وتتعدّى باللام في اللغة الفصحى إذا كان المفعول هو المُنْعِم، فهنا فرق دقيق في العربية لا يلاحظه كثير من طلبة العلم، فالفعل الذي هو (شكر) إن كان مفعوله النعمة تعدّى إلى النعمة بنفسه لا بحرف تَعَدٍّ، كقوله: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [النمل: آية ١٩] فـ ﴿نِعْمَتَكَ﴾ مفعول به لـ ﴿أَشْكُرَ﴾. أما إذا كان الشكر للمنعم فاللغة الفصحى التي لم يأتِ في القرآن غيرها أنه لا يتعدى الشكر إلى المنعم إلا باللام، فتقول: شكراً لك، وأنا أشكر لك، وأحمد الله وأشكر له. ولا تقول: وأشكره؛ ولذا يقول الله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: آية ١٤] ﴿وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: آية ١٥٢] ولم يأتِ في القرآن تعدية الشكر إلى المنعم إلاَّ بحرف الجر الذي هو اللام، فهذه هي اللغة الفصحى بلا نزاع بين من يحمل القلم العربي، أما لو قال: «وأشكره» من غير لام فقد أفرط قوم وقالوا: هذا لحن لا يجوز في العربية، والتحقيق: أن تعدية الشكر إلى المنعم بدون لام أنها لغة مسموعة جائزة، إلا أنها ليست هي اللغة الفصحى المشهورة، ومن شواهد هذه اللغة قول أبي نُخيلة (١):
شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
ألَمْ أكُ جَاركُمْ وَيَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإِخَاءُ
كما هو معروف في محلّه، وأظهر القولين: أنها عطف على الفعل المنصوب في ﴿لِيُفْسِدُواْ﴾.
﴿وَيَذَرَكَ﴾ يعني: يتركك وآلهتك، لا يعبدك ولا يعبد آلهتك. يزعم المؤرخون أن لفرعون آلهة يأمر قومه بعبادتها، وهم يتقربون إليه هو بعبادتها، وهو كأنه هو الإله الكبير، كما يأتي في قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: آية ٢٤] عليه لعائن الله، وقراءة الجمهور ﴿وَآلِهَتَكَ﴾ ويذرك فلا يعبدك ويذر آلهتك فلا يعبدها، وقراءة ابن عباس: ﴿ويذرك وإِلاهَتكَ﴾ (١) أي: وعبادتك. وهي قراءة شاذة، فـ (الإلاهة): العبادة. قال فرعون لهم: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ﴾، سنُنكل بهم ولا نمهلهم، ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ﴾، كل مَنْ يولَدُ لهم قَتَلْنَاهُ ﴿وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ﴾ نترك بناتهم ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ (... ) (٢) يعني: فوقيّة مكانة ومنزلة، قاهرون لهم، مذللون لهم تحت سلطاننا.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن فرعون ذبح أولاد بني إسرائيل تذبيحتين:
التذبيحة الأولى التي كانت سببًا لجعل أم موسى موسى في التابوت، كما سيأتي خبرها مفصَّلاً في سور من كتاب الله، حيث قال لها: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص: آية ٧] وخوفها عليه أي من قتل فرعون للأولاد حذرًا من ذلك الغلام الذي سيزول ملكه عليه.
_________
(١) مضت عند تفسير الآية (٥٩) من هذه السورة.
(٢) في هذا الموضع وقع مسح يسير في التسجيل، وهو لا يؤثر؛ لأن المعنى مستقيم بصورته الحالية.
فسمى قعودهم وتركه العمل سماه «عملاً مضللاً» وهذا معروف، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (١) فسمى ترك الأذى إسلاماً، ومعلوم أن الإسلام لا يكون بالعدم إلا بأفعال، وهذا يبين أن الأعمال التي يُزَيِّنُهَا الشيطان فيؤاخذ الإنسان بها أربعة: أعمال الجوارح (وهي الأفعال)، وأعمال اللسان (وهي الأقوال)، والعزم المُصَمِّم، والترك، كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾.
﴿وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ﴾ [الأنفال: الآية ٤٨] الله هنا في هذه الآية من سورة الأنفال صرح بأن الشيطان (قال) ولم يقل: (وسوس) فصرح بالقول ولم يذكر الوسوسة؛ لأن الشيطان تَمَثَّلَ لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي البَكْرِي (رضي الله عنه)؛ لأن قريشاً لما جاءهم ضَمْضَم بن عمرو الغفاري -أرسله لهم أبو سفيان- وتأَهَّبُوا للخُرُوجِ وأجمعوا عليه، وبينهم وبين بني بكر بن كنانة عداوة، فخافوا أن يأتوهم من ورائهم فيأخذوا نساءهم وذراريهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك، وكان سيد بني مدلج، وهو من سادات بَنِي بَكْر بن كنانة، وقال لهم: إني جار لكم، أجيركم من كنانة فلا يصل إليكم منهم سوء، وَزَيَّنَ لهُمْ هذه الأعمال، وقال: أنتم على حق، هذا الرجل الذي سفه أحلامكم، وفَرَّقَ كَلِمَتَكُمْ، وعَابَ آلهتكم، وسفَّهَ آباءكم، فاذهبوا إليه ولا تتركوه يأخذ عِيرَكم، ونحو هذا من التَّزْيين، ولا غالب لكم
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٨) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon