فمن حمله على اعتقاد قلنا: وأصل هذا الاستدلال يتقرر على ما تقرر في علم المنطق من أن المقدمة الشرطية لَا تتعدد بتعدد مقدمها، هنا مثله بتأصله، وقد يقال: إن هذا الاستدلال إنما ينتج أنه لَا يخلى سبيلهم، وذلك أعم من القتل، وما ذكره معه في أول الآية ولم يذكر في الآية الصوم والحج، فمع كونها من آخر ما أنزل، وكان الحج فذكر هو لأن المذكور أهمها.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ... (٦)﴾
الزمخشري: (أَحَدٌ) مرتفع بفعل الشرط مضمرا يفسره الظاهر؛ تقديره: وإن استجارك أحد.
الفخر: (١) فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ التَّقْدِيرُ مَا ذَكَرْتُمْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ هَذَا التَّرْتِيبِ الْحَقِيقِيِّ؟، قلنا: الحكمة فيه ما ذكر سيبويه وهو أنهم يقدمون الأهم، ولما كان ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم كل واحد من المشركين، فقدم ذكره ليدل على مزيد العناية لصون دمه عن الإهدار، وفي الآية دليل على أن التقليد [غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ*]، وأنه لَا بد من النظر والاستدلال؛ لأنه لو كان التقليد كافيا لوجب أن لَا [يُمْهَلَ*]؛ بل يقال إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ [نَقْتُلَكَ*]، وليس في الآية ما يدل على مقدار هذه المسألة المهملة، ويرجع في ذلك إلى العرف بحسب حال الشخص، والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع الدلائل، والجواب عن الشبهات؛ والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك [الإجارة*] بكونه غير عالم، والمعنى [فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا*] للعلم مسترشدا للحق، وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت [إجارته*]، وليس في الآية ما يدل، هل المراد سماعه جميع القرآن أو بعضه؟ والظاهر ما يحصل لديه العلم غالبا، والحربي إذا دخل دار الإسلام كان [معصوما*] مع ماله إلا أن يدخل مستجيرا لغرض شرعي أو لتجارة أو رسولا أو ليأخذ ماله بدار الإسلام، وكما له أمان فأمان ماله أمان له، وانظر كلام مكي في الهداية في هذا الوجه حيث تكلم على إضافة كلام الله فهو مشكل؛ لأنه قال: إضافة [تخصيص*] بمعنى القيام به ليست إضافة ملك لملك ولا خلق لخالق، ولا إضافة تشريف؛ بل بمعنى إرادته غير متعدية عنه؛ فافهمه. قوله بمعنى إرادته؛ أي بمعنى إضافة الإرادة إليه في كونها غير متعدية عنه لا كما تقوله المعتزلة أنه تعالى خلق الكلام في السجود، هذا تقدير كلامه وبيانه على مذهب أهل السنة، وانظر ما ذكر أبو حيان من لزوم تقدير الضمير بعد حتى هو غير لازم بل القدر الفعل، ونص كلامه: حتى متعلقه بـ (أَجِرْهُ) ولا يصح تعلقها بـ (اسْتَجَارَكَ) على أنه من باب الشارع؛ لأنه لو أعمل الأول لَا ضمير في الثاني، وحتى لا يجر المضمر وعند من يجر بها يصح كونه من باب الشارع، انتهى.

(١) النص في مفاتيح الغيب هكذا:
"اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلَكَ فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَاهُ وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ بَاحِثًا عَنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ أُمْهِلَ وَتُرِكَ وَمَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعْرِضًا عَنِ الْحَقِّ دَافِعًا لِلزَّمَانِ بِالْأَكَاذِيبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ واللَّه أَعْلَمُ." اهـ (مفاتيح الغيب. ١٥/ ٥٣٠ ـ ٥٣١).


الصفحة التالية
Icon