لما مضى، ولما يستقبل؛ لأنه معلوم أنهم لَا يقدرون على ذلك، وكذلك قال الشاطبي في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) [**ومن يقل بعلوم الغيب]، قلت: وأثبته [... ]، لأنه فرق بين تكليف ما لَا يطاق وبين الإعجاز بتكليف ما لَا يطاق؛ فلم يعجزوا أصلا بالإتيان بمثل الكلام القديم الأزلي؛ لأنه ليس في قدرتهم ذلك بوجه؛ ولأن المعجزة من [شرطها*] الحدوث، فلو علله بكون المعجزة من شرطها الحدوث لصح له ذلك.
فكلام الشاطبي مثل كلام ابن عطية هنا؛ لأن الشاطبي فهم أن المراد فأتوا بكلام قديم أزلي من عند الله، كما أتى القرآن من عنده فأبطله الشاطبي بأنه من تكليف ما لا يطاق.
قال ابن عرفة: وهو ضعيف؛ لأن تكليف ما لَا يطاق عادة عندنا جائز، فكيف يبطله؟! فإنه من تكليف ما لَا يطاق، وفرق بين التكليف بالحال وبين إلزام الحال.
قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ).
الزمخشري: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجئوه في بداهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا [كنه*] أمره، وذلك لفرط نفورهم مما يخالف دينهم وخروجهم عن دين آبائهم كالناشئ على التقلد من الحشوية.
قيل لابن عرفة: الحشوية هم الحنابلة، والزمخشري حنفي.
ابن عرفة: الحشوية عندهم المخالفون لمذهبه، وعندنا هم المجسمة القائلون بالجثة والمكان، قلت: وفي تلبيس إبليس [لابن الجوزي*] الحشوية طائفة من المرجئة [قالوا بوجوب*] النافلة كالفريضة (١)، وانظر ما قيدت في سورة النمل في قوله تعالى: (قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) ابن عرفة: وتكذيب الإنسان بما لم يعلم أشد؛ فنجا من تكذيبه بما علم، قدمهم أولا على التكذيب بما علموا ثم أضرب عنه بكونهم كذبوا به قبل العلم به، قال: وكان بعضهم يأخذ من الآية مطلبين أحدهما: أنه لَا يجوز لأحد أن ينكر علما من العلوم فلا يكذب به من يعلمه.
الثاني: إذا بحث ذاك فلا يرد عليه حتى يكرر كلامه ليعلم منه أنه فهمه، وحينئذ يقبل منه الجواب عنه؛ لأن الرد عليه تكذيب له وإبطال.
قوله تعالى: (وَلَمَّا يَأتِهِم تَأوِيلُهُ) أي لم يعلموه من حيث ليكمله لرجل لم يقرأ علم الفلسفة ولكن يعلم خاصيته؛ وهو أن من خصائصه نسبة التأثير لغير الله عز وجل

(١) النص في التلبيس هكذا:
"وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة التاركية قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به فمن آمن به وعرفه فليفعل ما شاء والسائبية قالوا إن الله تعالى سيب خلقه ليعملوا ما شاءوا والراجية قالوا لا نسمي الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا لأنا لا ندري ما له عند الله والشاكية قالوا إن الطاعات ليست من الإيمان والبيهسية قالوا الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر والمنقوصية قالوا الإيمان لا يزيد ولا ينقص والمستثنية نفوا الاستثناء في الإيمان والمشبهة يقولون لله بصر كبصري ويد كيدي والحشوية جعلوا حكم الأحاديث كلها واحدا فعندهم إن تارك النفل كتارك الفرض والظاهرية وهم الذين نفوا القياس والبدعية أول من ابتدع الأحداث في هذه الأمة. اهـ (تلبيس إبليس. ٣١).


الصفحة التالية
Icon