الأصل أن بعد لكن اللام، هنا ليست للتعدية بل للتعليل، أي لَا تمل خدك لأجل النَّاس.
قوله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ... (١٩)﴾
قال ابن عرفة: إنما لم يقل: واقصد في مشيك وصوتك؛ لأن المشي أقسام: مشي في غاية الضعف والبطء، ومشي في غاية السرعة والاستعجال، ومشي متوسط مقتصد، فأمر بالتوسط فيه، والصوت أحد طرفيه منتف هاهنا، وهو أضعفه وأخفى، لأن المقصود منه الإسماع، فلم يبق منه إلا القسم الثاني، وهو أعلاه وأبلغه المتناول لأقصى غاية الإجهاد، فأمره بالنقص من هذا والاتصاف بما دونه.
قوله تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
ولم يقل: لصوت الحمار؛ لأن ذلك خرج مخرج التقبيح، وأصوات الحمير مجمعه أشد من صوت حمار واحد.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ... (٢٠)﴾
قال ابن عرفة: مثل هذا في القرآن كثير، وإنما أتى بهذا البعض منكرا دون تعيين لوجهين:
إما قصد التستر عليه، وإما قصد العموم [للتخويف*]، حتى أن كل أحد من المخالفين يظن أن الآية تتناوله، والمجادلة تتعدى باللام [وفي*]، والمجادل لله بحق، لأنه يجادل لإظهار دين الله ونصرته، والمجادل في الله مبطل، لأنه يجادل قادحا في دين الله لنصرة الإشراك بالله.
قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قال ابن عرفة: [يستفاد منها*] أن المجادل في الشيء تارة يكون جداله بعلم استعمله واستنبطه من عقله، وتارة يأتي بدليل استفاده من غيره ممن هو مثله، كمن يستدل بدليل ذكره القاضي الباقلاني، أو غيره، وتارة يأتي بدليل سمعي: كتاب، أو سنة، استفادها من نبي معصوم، أو بلغه عنه، فالأول: راجع لقوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ)، والثاني: بقوله تعالى: (وَلَا هُدًى)، والثالث: بقوله تعالى: (وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ).
قوله تعالى: (مُنِيرٍ) إشارة إلى ذلك الدليل الذي من الكتاب والسنة قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة، وأشار الفخر إلى بعض، قال: وفي الآية حجة من قاعدة المنطق واستعمال لفظه غير ذي الأولى، لأنها كالمعدولة المقتضية لوجود الموضوع،