أحدهما: أن اللام أدخلت في الأولى جوابا، ثم حذفت في الثانية، وهو مرادة في المعنى اكتفى بذكرها أولا، وأنشد عليه:
حتى إذا الكلَّاب قال لها... كاليوم مطلوبا ولا طلبا
أراد لم أر كاليوم، والكلاب [صاحب الكلاب*]، والمطلوب الصيد، والطالب الكلب يمدح كلابه، أي لم أر في القوة كالطالب، وفي الضعف كالمطلوب، الثاني: أن اللام في المطعوم للتأكيد، لأن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى المشروب، ألا ترى أنك إنما تسقي [ضيفك*] بعد أن تطعمه، ولو عكست قعدت نحو قول أبي العلاء، أي دخلت تحت قوله:
[إذا سقيت ضيوف النّاس محضا... سقوا أضيافهم شبما زلالا*] (١)
أي إذا سقيت الضياف اللبن المحض، وهو غير المخلوط بالماء سقوهم أضيافهم الماء الخالص، فهو يذمهم على فعلهم ذلك، فإِن قلت: لم عقب نعمة المشروب بالشكر، ولم [يعقب*] نعمة المأكول مع [أن*] الإنسان مأمور في الشرع بالشكر، عقيب الأكل وعقيب المشروب؟ فالجواب: إن الأكل والشرب متلازمان، إذ لَا يكون الشرب غالبا إلا عقيب الأكل، فالأمر بالشكر إليه أمر بالشكر على الجميع، أي أفلا تشكرون على الأمرين معا، وخص هذا بالشكر، وقال قبله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)، ذلك محل اعتبار وتذكر، وهذا محل شكر وحمد.
قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا... (٧٢)﴾
عبر هنا بالإنشاء، وقال: قيل (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)، لأن ذلك الخلق مسبوق بنوعٍ ومثالٍ تقدَّمَه، وهذا ابتدائي إنشائي لم يسبق بشيء، فلذلك عبر عنه بالإنشاء، وقال هنا: (أَنْشَأْتُمْ) بلفظ الماضي، كما قال تعالى (أَنْزَلْتُمُوهُ)، فيرد السؤال المتقدم، والجواب كالجواب، والنار هل هي الجمرة، أو عرض قام بها، أو أي شيء هو الصواب، إنما هي جواهر لطيفة تحللت بين أجزاء الفحمة، بدليل أن الجمرة تستقر في الأرض، والنار من قواعدهم ترتفع إلى فوق كنار السراج، وبدليل عدم كونها في الحجر، لأن أجزاءه متراصة لَا خلل فيها، فالنار تحلل أجزاءها، وتحل فيها كما حلت الروح في الجسم، مع أنها جوهر لطيف [مسكنه العلو*]، وأما النار التي تخرج من الزناد، فلم تكن فيه؛ بل خلقها الله تعالى فيه عند القدح؛ لئلا يلزم عليه مذهب القائلين بالكون والظهور، ويحتمل أن تكون انفصلت من الزناد أجزاء تبدلت أعراضها عند القدح بإعراض النار، وقول ابن عطية في قوله (شَجَرَتَهَا) قيل: الشجرة، هي النار نفسها لا [يقال*] يلزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه، لأنه من إضافة الأعم إلى الأخص، وهو جائز عندهم.

(١) لأبي العلاء يمدح سعد الدولة أبا الفضائل، وعيب عليه حيث مدح بسقى الضيوف الماء قبل ذكر الطعام.
والمخض -بمعجمتين-: اللبن المنزوع زبده، فهو بمعنى الممخوض. ويروى: محضا، بالحاء المهملة، أى: خالصا حلوا أو حامضا. والشبم -كحذر-: البارد. والزلال: العقب. هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد فنقول: إن معنى البيت: إذا عجلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الإسراع بالطعام:
عجلوا هم بالطعام لضيوفهم لاستعدادهم للضيفان، فيحتاجون لشرب الماء، فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان، فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام، لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه. اهـ


الصفحة التالية
Icon