وأما إذا لم يكن للقاضي رزقٌ في بيتِ المال، فأخذَ جُعْلًا من الخصمِ، جازَ إذا قضى بالحقِّ، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ، وعنَد أبي حنيفةَ إذا أرادَ القاضي أن يكتبَ السجلَّ، ويأخذَ على ذلك أجرًا، يأخذ منه مقدارَ ما يجوزُ أخذهُ لغيرِه، وكذا لو تولَّى القسمةَ بنفسِه بأجرٍ، وعندَ مالكٍ لا ينبغي أن يأخذَ رزقَه إلَّا من الحبسِ، أو من الجزيةِ، أو من عُشورِ أهلِ الذمَّة.
﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ خَيَّرَ اللهُ رسولَه - ﷺ - في الحكمِ بينَهم إن شاء، وإن شاءَ تركَ.
واختلفوا في حكم الآيةِ اليومَ هل للحاكمِ الخيارُ في الحكمِ بينَ أهلِ الذمَّةِ إذا تحاكموا؟ فقالَ أكثرُ أهلِ العلم: هو حكم ثابتٌ، وليسَ في سورةِ المائدةِ منسوخٌ، وحكامُ المسلمينَ بالخيارِ في الحكمِ (١) بينَ أهلِ الكتابِ، إنْ شاؤوا حكموا، وإن شاؤوا لم يحكموا، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وقالَ قومٌ: حكمُ الآيةِ منسوخٌ بقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩]، فيجبُ على حاكم المسلمينَ الحكمُ بينهم، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، فأما إذا كانتِ الخصومةُ بينَ مسلمٍ وذميٍّ، فيجبُ الحكم بينَهما بالاتفاق؛ لأنه لا يجوزُ لمسلمٍ الانقيادُ لحكمِ أهل الذمة.
﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: عن الحكم بينهم.
﴿فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ نصبٌ؛ لقيامِه مقامَ المصدرِ؛ أي: ضررًا.
﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ أي: بالعدل.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ العادلين.

= (١٤١٥)، والحاكم في "المستدرك" (٧٠٦٨)، عن ثوبان -رضي الله عنه-.
(١) "في الحكم" ساقطة من "ن".


الصفحة التالية
Icon