﴿بَلَى﴾، وأهلُ الشقاوة قالوه تقيةً، وكُرْهًا، وذلكَ معنى قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ (١) [آل عمران: ٨٣]، وكان الميثاقُ بنعمانَ، وهي عرفةُ وما يليها، وقيل: بأرض الهندِ حيثُ هبطَ آدمُ -عليه السّلام- فيه، وقيلَ: في سماء الدنيا حينَ هبطَ من الجنَّة إليها.
﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: أشهدَ بعضَهم على بعضٍ حينَ قالَ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ استفهامُ تقريرٍ؛ أي: ما تُقِرُّونَ وتعترفونَ بأني رَبُّكُم؟
﴿قَالُوا بَلَى﴾ نحنُ نقرُّ ونعترفُ بهذا الاعترافِ والإقرارِ، وهذا شأنُ بني آدَمَ لا يُسأَلُ أحدٌ منهم: ألَيس اللهُ ربَّكَ؟ إِلَّا قال: بلى، فهم مفطورونَ على ذلك، فكلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فالإقرارُ بالخالقِ فطريٌّ لهم، كلُّهم يُقِرُّ به، وقولهم: (بلى) ردٌّ للنفي، فثبتَ إيمانُهم؛ لجوابهم ببلى، ولو أجابوا بنعم، لكفروا، لأنّ (نعم) تصديقٌ لما سبقَها من نفيٍ أو إثباتٍ، و (بلى) إثباتٌ لما بعدَ النَّفْي، وليسَ نفيٌ، واستفهامُ التقريرِ أكَّدَ معنى النَّفْي، والباءُ في خبر (ليس) زادته تأكيدًا، وتقديرُه: بلى أنتَ ربُّنا.
﴿شَهِدْنَا﴾ على أنفسِنا، وأقررْنا بوحدانيتكَ.
﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ أي: فعلْنا ذلكَ بهم حتّى اعترفوا لئلَّا يقولوا.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا﴾ الإقرارِ.
﴿غَافِلِينَ﴾ لم نشعرْ، فلم يبقَ لهم حجةٌ علينا.
قال القرطبيُّ: فقد استُدِلَّ بهذه الآية أنَّ من ماتَ صغيرًا دخلَ الجنةَ؛ لإقراره في الميثاقِ الأولِ، ومن بلغ العهدَ، لم يُغْنِه الميثاقُ (٢).

(١) رواه ابن عبد البرّ في "التمهيد" (١٨/ ٨٥).
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٧/ ٣١٧).


الصفحة التالية
Icon