ذلك، لذلك قال عن المثل الثاني: هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم: قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيب..
المثل الأول: قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ المثل هو القول السائر، ثم استعير للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة. ويضرب المثل زيادة في الكشف، وتتميما للبيان، وتقدير هذا المثل: إن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى: بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله فبينا هو كذلك إذ أطفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك. فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا قال الرازي: «والتشبيه هنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين» فصار المعنى:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور، نور الإسلام الذي يرون به الأشياء كلها على حقائقها. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. لا يُبْصِرُونَ أي لا يهتدون إلى سبيل خير، ولا يعرفونها وهم مع ذلك صُمٌّ لا يسمعون خيرا، بُكْمٌ لا يتكلمون بما ينفعهم، عُمْيٌ عن رؤية الحق، فبصيرتهم عمياء وهم في ضلالة. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي فلذلك لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة، وهذا المثل نجده منطبقا على كثير من أبناء المسلمين في عصرنا ممن مرت عليهم فترات استغرقوا فيها بالعبادة والإسلام، ثم انتظموا في سلك أهل الكفر والضلال، ساخرين من حالهم الأول، مزدادين كل يوم كفرا على كفر، وقد دل المثل على أن الإنسان الذي لا يرى الأشياء بنور الإيمان منافق، ومن لم تكن منطلقاته في الحكم على الأشياء منطلقات إسلامية، فإنه: منافق لا يرى الأشياء بنور الله على ما هي عليه في الحقيقة، ثم ضرب الله مثلا آخر لنوع آخر من النفاق: