(ترقى الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى، وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات.
لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التى يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
«وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام. ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام. ولعلها لا تزال.
فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر، وطورا بعد طور. وأسلوبا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
«وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شئ غير ذلك، ولن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال.. ).
كذلك كتب في فصل: (أطوار العقيدة الإلهية) في الكتاب نفسه:
(يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها