وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فكان تذكير نوح يرافقه الوعظ، وكان تذكير هود يرافقه التأنيب، وكان تذكير صالح يرافقه التذكير بالنعمة، وكلها طرق يقتدى بها، ولكل منها محله وأهله، وكل قصة تعرض حججا وتعرض أجوبة، وتعطينا عطاء خاصا، وكل ذلك يخدم سياق السورة، فليست كل قصة تكرارا للأخرى، فلكل قوم طبيعة، ولكل قوم عقوبة، ولكل قوم خطاب، ولكل قوم رد، فتأمل جوانب الاتفاق والاختلاف ففي كل ذلك من المعاني ما لا يتناهى. ولنعد إلى السياق:
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أي كنت فيما بيننا مرجوا للسيادة والمشاورة في الأمور، أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت:
أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وما كان عليه أسلافنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من عبادة الله وحده مُرِيبٍ أي موقع في الريبة، والريبة: قلق النفس وانتفاء الطمأنينة، وهكذا نجد هنا لغة أخرى في خطاب رجل الدعوة إلى الله، الثناء على حاله الأول قبل الدعوة، وإنكار الحق بحجة تقليد الآباء، وإظهار التشكك في الدعوة، وهي طرق خبيثة من طرق الصد عن سبيل الله.
فائدة:
يلاحظ أن حجة قوم نوح كانت: بشرية الرسول، وضحالة رأي أتباعه، وقلة مكانتهم، وعدم رؤية الميزة لنوح ومن معه، مما يجعلهم غير مؤهلين للاتباع، وكان رد قوم هود منصبا على أنه لا بينة واضحة في دعوة هود، مع تهديد هود بآلهتهم، وكانت اللغة التي استعملت مع صالح عليه السلام هي ما رأينا، وهكذا نجد مواقف متعددة، وأساليب متنوعة، تسع الحالات التي يصادفها كل داعية إلى الله وهو يدعو إلى عبادة الله واستغفاره، وهكذا تبني سورة هود قصة الدعوة إلى الله من خلال التقرير والتمثيل والعرض والقصة، وتأتي القصص واحدة بعد أخرى؛ لنرى في كل منها جوانب جديدة، إن في موضوع الدعوة، أو في موضوع ردها وحجج الرادين، أو في مواقف الرسل عليهم السلام، أو في عاقبة الظالمين. ولنعد إلى السياق:
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي أخبروني إن كنت على بينة من ربي أي على يقين وبرهان فيما أرسلني به إليكم وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أي نبوة أي:
قدروا أني على بينة من ربي، وأنني نبي على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي فمن يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ في


الصفحة التالية
Icon