معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغيض، وأن نقضي أمر نوح- وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه- فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمر الذي لا يتأتي منه- لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره العظيم، وأن السموات والأرض منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة لإرادته، فيها تغييرا وتبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده. ثم بنى على تشبيه هذا نظم الكلام فقال عزّ وجل: وَقِيلَ على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو (يا أرض، ويا سماء) ثم قال مخاطبا لهما (يا أرض) و (يا سماء) على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغور الماء في الأرض، البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات كتقوي الآكل بالطعام، ثم قال (ماءك) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز لاتصال الماء بالأرض كاتصال الملك بالمالك. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفعل، للشبه بينهما في عدم التأني. ثم قال وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً ولم يصرح بمن أغاض الماء، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة بعدا. كما لم يصرح بقائل (يا أرض ويا سماء) سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في فعله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ولا أن يكون الغائض والقاضي والمسوي غيره. ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم، إظهارا لمكان السخط وأن ذلك العذاب الشديد ما كان إلا بظلمهم.
ومن جهة علم المعاني: وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها. وذلك أنه اختير (يا) دون أخواتها لكونها أكثر استعمالا، ولدلالتها على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة والملكوت، وإبداء العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل يا أرضي لزيادة التهاون إذ الإضافة تستدعي القرب. ولم يقل يا أيتها الأرض للاختصار، واختير لفظ الأرض والسماء