وذلك أنهُ (١) هاجرَ إلى المدينةِ، فكانَ أَكْثَرُ أهلِها ومَنْ حَوْلَها اليهودَ، فَطَعنوا في ذلكَ، وتكلموا فيه بما يَشُقُّ على النبيِّ - ﷺ - وأصحابهِ، فأمرهُ اللهُ تَعالى بالصلاةِ نحوَ الكَعْبَةِ (٢).
والحَق -إن شاءَ الله تعالى- أن استقبالَ النبيِّ - ﷺ - بيتَ المقدسِ ليسَ باجتهادٍ منهُ، بلْ بوحي من اللهِ سُبْحانه، ولو قلنا بالمذهبِ الصَّحيحِ أَنَّهُ يجوزُ لهُ الاجتهادُ؛ لقولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة: ١٤٤]، فلو كان توجُّهُهُ إليها باجتهادِه، لتحوَّلَ عنها باجتهاده، كما استقبلَ باجتهِاده (٣)، فلمّا سألَ ربَّهُ التحويلَ إلى قبلةِ أبيهِ إبراهيمَ -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- وانتظر إذْنَ ربِّهِ سبحانَه، علمْنا أنه لم يتوجَّهْ إلى بيتِ المقدسِ إلَّا بأمرِ اللهِ سبحانَهُ. وأما كونُ ذلكَ الأمرِ قرآنًا، فليسَ عليه دليلٌ.
أما قولهُ تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥]، فإنها نزلتْ في قومٍ مخصوصين كما سبقَ بيانُه (٤).
وأما قوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠]، فالظاهر أن المراد به التوحيد والإيمان.
وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٣]، فليس
(١) في "ب": "وقد كان".
(٢) رواه البخاري (٣٩٠)، كتاب: القبلة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (٥٢٥)، كتاب: الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.
(٣) أي: بعد أن خُيِّر فاختار، وكان ذلك الاختيار باجتهادٍ منه - ﷺ -، والله أعلم.
(٤) انظر -ما تقدم-: (ص: ١٨١).