فالجوابُ: أَنَّ بينهما فَرْقاً لطيفاً، وهو أن الآياتِ المتقدِّماتِ فارغةٌ مِنَ الإضماراتِ والحذفِ.
فأما الآيةُ الأولى، وهي قولُه تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]، فإنه بيِّنٌ عندهم أنَّ الله -تعالى- إنما قصدَ تحريمَ نِكاحِهِنَّ لا غَيْر. واللَّمْسُ لِشَهْوَةٍ والتقبيلُ من توابعِهِ ولوازِمِهِ، فَمَنِ ادَّعى أنه أُضْمِرَ شيءٌ آخَرُ، فقدْ أَخْطَأ.
وأَمّا التي تتضمَّنُ النفيَ والإثبات في الأعيان، فقد قُلْتُ (١): إنَّ الشارعَ إنما يَنْفي ويُثْبتُ الشَّرْعِيّاتِ، فكأنه قالَ: لا عملَ عندي إلا بالنيّةِ، فيكون عامًّا ظاهِراً فيَ النَّفْي، فلا إضمارَ فيه.
وأما قوله - ﷺ -: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ وما اسْتُكْرِهوا عليهِ (٢) " (٣)، فقد ثبتَ أنَّه معقولٌ في لِسانِ العربِ أَنَّهُ إنَّما قصدَ رَفْعَ عُقوبةِ الخَطَأ، وذلكَ مُطْلَقٌ في كُلِّ عُقوبةٍ، فإن تخلفتْ عقوبةٌ عن هذا الإطلاقِ، وأُخِذَ بها المخطِئُ أو النَّاسي، كَغَرامَةِ المُتْلَفاتِ، فذلكَ كالتَّقييدِ لهذا المُطْلَقِ، ولا إضمارَ فيها، وإنّما فيه إقامةُ المُضاف إليهِ مقامَ المُضافِ، على حدِّ قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢].
وأَمّا هذهِ المسألةُ، وهي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] ففيها إضماراتٌ كثيرةٌ، لكنَّه قال في "الأم": تلكَ الإضْماراتُ ظاهرةٌ معقولةٌ من فَحْوى قصدِ المُتكلِّم، فكأنها مذكورَةٌ. وقال في "الإملاء" بخلافه، وقول "الأُمِّ" أقربُ وأصوبُ إن شاء الله تعالى.

(١) في "ب": "بينت".
(٢) "وما استكرهوا عليه" ليس في "ب".
(٣) تقدم تخريجه قريباً.


الصفحة التالية
Icon