ويمنع مِنْ إظهارِه، وله عشيرةٌ، فقد صاحَ أبو جَنْدَلٍ بأعلى صَوْتهِ، وهو يَرْسُفُ (١) في الحديدِ: يا معشرَ المسلمين! أُرَدُّ إلى المشركينَ يفتنوني عن دِيني؟! فقالَ رسولُ اللهِ - ﷺ -: "يا أبا جَنْدَلٍ اصبرْ واحتِسبْ؛ فإنَّ اللهَ جاعلٌ لكَ ولِمَنْ معكَ منَ المستضعفين فَرَجًا ومَخْرَجاً" (٢)، وردَّ النبيَّ - ﷺ - أبا بصيرٍ، ولم يكنْ له عشيرةٌ تمنعهُ، وقتلَ أحدَ الرجلينِ اللذَيْنِ جاءا إليه، فقال: يا رسولَ الله! قد وَفَّيْتَ لَهُم، ونَجّاني اللهُ منهم، فأفهمَه أنه رادُّه إليهم مَرَّةً أخرى إِنْ جاؤوا في طَلَبه، والغالبُ على الظنِّ أنهم يقتلونه إن استَردُّوه وظَفِروه، فلحقَ بالساحلِ، وقصتهُ مشهورةٌ (٣).
ويحتمل أن يقالَ: لا يجوزُ؛ لأن الله سبحانَه جعلَ لنبيه - ﷺ - ما لَمْ يكنْ لغيرِه، وجعلَ صُلْحَ الحُديبية لهُ فتحاً مبينًا، أو لأنَّ النبيَّ - ﷺ - إنَّما فعلَ ذلكَ تَعْظيماً للمسجدِ الحرامِ؛ بدليلِ قوله - ﷺ - لَمّا حَبَسَ القَصْواءَ حابِسُ اللَّيلِ: "والله لا يَسْأَلونَني خِطَّةً يُعَظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أَجَبْتُهُمْ إليها" (٤).
وبهذا قال مالك وأصحابُه، فلا يجوزُ عندَهم رَدُّ المسلمِ بحالٍ (٥).
* ثم نَصَّ اللهُ سبحانَه على تحريمِهِنَّ على المشركينَ، وعلى تحريمِ المشركينَ عليهِنَّ، وهذا أَصرَحُ في التحريمِ من الذي في سورةِ البقرةِ.

(١) رَسَفَ في القيد يرسُفُ ويرسِفُ رسَفًا ورسيفًا وسَفاناً: مشى مشْيَ المقيد. وقيل: هو المشي في القيد رويداً، فهو راسف. "لسان العرب" (مادة: رسف).
(٢) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (٤/ ٣٢٥)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٩/ ٢٢٧)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٢٥/ ٣٠٠ - ٣٠١)، عن المسور بن مخرمة.
(٣) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (٤/ ٢٤٨)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (٩/ ١٤٤).
(٤) رواه البخاري (٢٥٨١)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، عن المسور بن مخرمة.
(٥) ذكر القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (١٨/ ٦٣): أن هذا مذهب الكوفيين، أما مذهب الإِمام مالك فهو الجواز.


الصفحة التالية
Icon