والمعنى على هذا القول: إنَّا في الدنيا قادرون على أن نجعل عظام بَنَانِهِ مجموعةً دون تفرُّقٍ، فكيف لا نقدر على جمعها بعد تفرقتها (١).
فهذا وجهٌ من الاستدلال غير الأوَّل، وهو استدلالٌ بقدرته -سبحانه- على جمع العظام التي فرَّقَها ولم يجمعها، والأوَّل استدلالٌ بقدرته -سبحانه- على جمع عظامه بعد تفريقها، وهما وجهان حَسَنَان، وكلٌّ منهما له الترجيحُ من وجهٍ:
فيرجِّحُ الأوَّل أنَّه هو المقصود، وهو الذي أنكره الكفار، وهو أُجرِيَ على نسق الكلام واطَّرَد؛ ولأنَّ الكلام لم يُسَقْ لجمع العظام وتفريقها في الدنيا، وإنَّما سِيق لجمعها في الآخرة بعد تفرُّقها بالموت (٢).
ويرجِّحُ القولَ الثاني-ولعلَّه قول جمهور المفسِّرين، حتَّى إنَّ (٣) فيهم من لم يذكر غيره (٤) - أنَّه استدلالٌ بآيةٍ ظاهرةٍ مشهودةٍ، وهي تفريق البَنَان مع انتظامها في كَفٍّ واحدٍ، وارتباط بعضها ببعضٍ، فهي متفرِّقة في عُضْوٍ واحِدٍ، يقبض منها واحدةً ويبسط أخرى، ويحرِّك واحدةً
(٢) وهذا قول: الزجَّاج في "معانيه" (٥/ ٢٥١)، وابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" (٣٤٦).
واختاره: ابن عطية في "المحرر الوجيز" (١٥/ ٢٠٨)، والقرطبي في "الجامع" (١٩/ ٩٣)، وابن كثير في "تفسيره" (٨/ ٢٧٦)، وغيرهم.
(٣) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ح) و (ط)، وأثبته من (م).
(٤) كالفرَّاء في "معانيه" (٣/ ٢٠٨)، وابن جرير في "تفسيره" (١٢/ ٣٢٨).
قال السمعاني: "وهذا قولٌ مشهورٌ في التفاسير". (٦/ ١٠٣).