لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث، ومن هاهنا حصل استخراج الصنائع، والحِرَفِ، والعلوم، وبناء المُدُنِ والمساكِنِ، وأمورِ الزراعة والفلاحة، وغير ذلك.
فلمَّا استخرجت "القوَّةُ المفكِّرةُ" ذلك، واستحسنته؛ سَلَّمته إلى "القوَّة [ك/ ١٢١] الإراديَّه العمليَّة (١) "، فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان، فكان أمرًا ذهنيًّا ثُمَّ صار وجوديًّا خارجيًّا، ولولا الفِكْر لمَا اهتدَى الإنسانُ إلى تحصيل المصالح ودفِع المفاسد، وذلك من أعظم النِّعَم، وتمام العناية الإلهيَّة، ولهذا لمَّا فقَدَ البهائم والمجانين ونحوهم هذه القوَّة لم يتمكَّنُوا ممَّا تمكَّنَ منه أربابُ الفِكْر.
ولمَّا كان استخراج المطلوب بهذه الطريق يتضمَّن تَفَكُّرًا وتقديرًا، فتفكَّرُ في استخراج المادَّة أوَّلاً، ثُمَّ تقدِّرُها وتفضَلُها ثانيًا -كما يصنع الخيَّاط؛ يُحَصِّل الثوبَ، ثُمَّ يقدِّره ويفصِّلُه ثانيًا-؛ قال -تعالى- عن الوحيد (٢): ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)﴾ [المدثر/ ١٨ - ٢٠]، فكرَّرَ -سبحانه- التقدير دون التفكُّر، وذمَّهُ عليه دونه. وهذا مُنَزَّلٌ على مقتضَى الحال سواء، فإنَّه بالفِكْر طالِبٌ لاستخراج المجهول، وذلك غير مذموم. فلمَّا استخرجه قدَّرَ له تقديرين: تقديرًا كليًّا، وتقديرًا (٣) جزئيًّا.
١ - فالتقدير الكلي: أنَّ الساحر هو الذي يفرِّقُ بين المرء وزَوجه.
(٢) بعدها في (ك) زيادة: الوليد بن المغيرة؛ وهو كالتوضيح للمراد بالوحيد.
(٣) ساقط من (ح) و (م).