أنَّ هذا خطابٌ للإنسان (١)، أي: فما يكذِّبُك بالجزاء والمَعَاد بعد هذا البيان، وهذا البرهان؛ فتقول: إنَّك لا تُبعث، ولا تُحاسب؟! ولو تفكَّرت في مبدأ خَلْقِك، وصورتك، لعلمتَ أنَ الذي خَلَقَك أقدر على إعادتك بعد موتك، ونشأتك خَلْقًا جديدًا من خَلْقِك الأوَّل (٢)، وأنَّ ذلك لو أَعْيَاهُ وأَعْجَزَهُ لأعْيَاهُ وأَعْجَزَه خَلْقُك الأوَّل.
وأيضًا؛ فإنَّ الذي كَمَّلَ خَلْقَك في أحسن تقويمٍ بعد (٣) أن كنت نطفةً من ماءٍ مهينٍ، كيف يليق به أن يتركَكَ سُدَىً، لا يكمِّلُ ذاتَكَ بالأمر والنهي، وبيانِ ما ينفعُكَ ويضرُّك، ولا يبعثُكَ لدارٍ هي أكمل من هذه الدار، ويجعل هذه الدار طريقًا لك إليها، فحِكْمَةُ أحكمِ [ح/١٨] الحاكمين تأبَى ذلك، وتقتضي خلافه.
قال منصور (٤): قلت لمجاهد: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧)﴾ عَنَى به محمدًا؟ فقال: "معاذَ اللهِ؛ إنَّما عَنَى به الإنسان" (٥).

(١) وهو قول: مجاهد، والكلبي، ومقاتل بن سليمان، وجمهور المفسرين.
قال السمعاني: "هذا هو القول المعروف، وهو الأولى؛ لأنَّ "ما" بمعنى "مَنْ" يبعد في اللغة". "تفسيره" (٦/ ٢٥٤).
واقتصر كثير من المفسرين عليه ولم يذكروا غيره، كما فعل: البغوي في "معالم التنزيل" (٨/ ٤٧٣)، والواحديُّ في "الوسيط" (٤/ ٥٢٦)، وابن كثير في "تفسيره" (٨/ ٤٣٥)، وغيرهم.
(٢) "من خلقك الأول" ساقط من (ح) و (م).
(٣) ساقط من (ز).
(٤) هو منصور بن المعتمر بن عبد الله السُّلَمي، الحافظ الثبت الحُجَّة، لم يكن بالكوفة أحفظ منه، روى له الجماعة، توفي سنة (١٣٢ هـ) رحمه الله.
انظر: "تهذيب الكمال" (٢٨/ ٥٤٦)، و"السير" (٥/ ٤٠٢).
(٥) أخرجه: ابن جرير في "تفسيره" رقم (٣٧٦٥٣ - ٣٧٦٥٥)، وابن أبي حاتم في =


الصفحة التالية
Icon