قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئىّ المشاهد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالمراد من قوله: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا) فليعلموا ذلك، على هذا المعنى حُمل في "التفسير"، وقال في هذا الوجه: (أَفَلا يُؤْمِنُونَ): أفلا يصدقون. تم كلام صاحب "الفرائد".
وقلتُ: ولا ارتياب في بُعد ذلك الاستدلال، فنهم إذا استدلوا بأن القرآن حقٌّ، فأيُّ حاجة إلى العلم بأن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما؛ فإن علم التوحيد والتنزيه فيه أشد سطوعاً من ذلك، فيجوزُ إثبات التوحيد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، لما تقرر في الأصول: أن إثبات للرسالة موقوفٌ على وجود الصانع، لا على وحدته. فنقول: إن هذا الإنكار وقع مع الذين نسبوا الولد إلى الله تعالى، فهم لا ينكرون البتة بأنه سبحانه وتعالى خالقُ السماوات والأرض ومبدعهما ومخترعهما، ألا ترى إلى قوله تعالى في البقرة: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: ١١٦ - ١١٧]، وفي الأنعام: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام: ١٠١]؟ فكأنه قيل لهم: كيف تتفوهون بهذه العظيمة، وتغفلون عما أنتم مقرون به وتعتقدونه من أنا أبدعنا هذه الأجرام العظام، واخترعناها ابتداءً، فهلا تتفكرون فتعلمون أن مبدع السماوات والأرض لا يستقيم أن يوصف بالولادة كما سبق في "الأنعام"، فوضع موضع "أبدع السماوات والأرض" قوله تعالى: (أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) مزيداً للتصور، أنه تعالى يصورُ لهم تلك الحالة التي وقعت الخلقةُ والإبداعُ عليها ليكون أردع وأزجر. وإذا كانوا مقرين بأصل الإبداع فأي بُعدٍ في إثبات العلم بذكر الفتق والرتق الذي هو بيان حالة الإبداع وتفصيلهن بل هو آكد؟ ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد قوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، حيث وضع (الَّذِينَ كَفَرُوا) موضع الضمير للإشعار بأن القائلين ستروا الحق، وغطوا على عقولهم بهذا القول الفظيع، والله تعالى أعلم.


الصفحة التالية
Icon