عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف، ومنّ على أسير، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا. والهباء: ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفي أمثالهم: "أقل من الهباء". (مَنْثُوراً) صفة للهباء، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده، وأنه لا ينتفع به، ثم بالمنثور منه، لأنك تراه منتظما مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. ونحوه قوله: (كَعَصْفٍ مَاكُولٍ) [الفيل: ٥]، لم يكف أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واستعمال "قدم" في الممثل به مستعارٌ لقصدٍ قوي، وعزم صميم، كأنه وصل بتلك العزمة إلى مقصده، كما يقدم المسافر إلى أعزة أهله، وينصره في الآية قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ أي: أردت ذلك، فجعلته كذلك، قيل: أجرى الكلام على ذلك بناءً على معتقده، لأنه منكرٌ للصفات. قال ابن عباسٍ: ﴿وَقَدِمْنَا﴾ أي: عمدنا، قال أهل الطريقة: أطلعناهم على أعمالهم فنظروا إليها بعين الرضا فسقطوا عن أعيننا.
قوله: (ولا عثيراً)، الجوهري: العثير: الغبار، بتسكين الثاء، ولا يقال: عثير، لأنه ليس في الكلام "فعيلٌ" بفتح الفاء إلا فهيد، وهو مصنوعٌ. وفي نسخة: "عثير" بفتح العين وسكون الياء التحتاني مثال العيهب، الأثر. يقال: ما رأيت لهم أثراً ولا عثراً، وهو تأكيدٌ للأثر وإتباعٌ له.
قوله: (لم يكف)، شبه عملهم بالهباء، ولم يكتف به، حتى جعله متناثراً، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع: بالتتميم والإيغال. قالت الخنساء:


الصفحة التالية
Icon