بضح الشمس (يَسِيراً) أي: على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت: (ثُمَّ) في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كأن الثاني أعظم من الأوّل، والثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر: وهو أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بضح الشمس)، النهاية: الضح: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض، وهو كالقمراء للقمر.
قوله: (كأن الثاني أعظم من الأول) لأن في إزالة الظل بالشمس دليلاً على جوده، فلولا الشمس ما عرف الظل، وأما الانتفاع بهما فالانتشار في النهار، والهدوء في الليل، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [الإسراء: ٦٦]، وما يحصل من وجود الليل من الرطوبة التي ينمو بها النامي، وتصبغ الفواكه، ومن وجود النهار الإنضاج، وأكثر الاستمتاع. وكون الثالث، أي: قبض الظل قبضاً يسيراً، أعظم من الثاني، لأن فيه الحصول والإزالة مع التدرج والمهل، فتحصل تلك الفائدة مع معرفة الساعات والأوقات المنوطة عليها أكثر أحكام الشرع، ولأن في التدرج الاستئناس، وفي الفجاءة التوحش.
قوله: (تشبيهاً لتباعد ما بينهما)، يعني: "ثم" هاهنا استعارةٌ تبعيةٌ، حيث شبه بعد المرتبة بالبعد الزماني، ثم استعير لجانب المشبه لفظة "ثم"، وليس المعنى أنه تعالى بعد ذلك المد بزمانٍ متراخٍ جعل الشمس عليه دليلاً، فيجب الحمل على المجاز، وكذلك ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا﴾.
قوله: (ووجهٌ آخر)، وهذا الوجه مبنيٌ على أن "ثم" مجرى على حقيقتها، وهي التراخي في الزمان، ولا شك أن الظلمة سابقةٌ على النور، قال الله تعالى: ﴿وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ [يس: ٣٧]، وقال - ﷺ -: "إن الله خلق الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره"، أخرجه الإمام أحمد بن حنبلٍ في "مسنده" عن عبد الله بن عمروٍ.