فإن قلت: كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهي: الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت:
إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية، لأنّ من كان قابلا للحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة ولم يظنّ به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له. (فَسَيَاتِيهِمْ) وعيد لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: بين قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧] وبين قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤] مناسبةٌ تشعر بقول أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما: كان خلقه القرآن، وفي رمزٌ غامضٌ وإيماءٌ خفيٌ إلى الأخلاق الربانية، وهو أنها احتشمت الحضرة الإلهية بأن تقول: بأنه صلوات الله عليه وسلامه كان متخلفاً بأخلاق الله تعالى، فعبرت بقولها: "كان خلقه القرآن"، استحياءً من سبحات الجلال، وستراً للحال بلطف المقال، وهذا من وفور علمها وكمال أدبها، لأن الله تعالى أبرز إلى الخلق أسماء منبئةً عن صفات الكمال، وما أظهرها لهم إلا ليدعوهم إليها، ولولا أنه تعالى أودع في القوى البشرية التخلق بالأخلاق ما أبرزها لهم، لكن يختص برحمته من يشاء.
قوله: (والغرض واحدٌ)، وهو دفعه والكفر به، كما قال: إعراضاً عنه وكفراً به. وتلخيص الجواب: منع ذلك، وأن المراد التدرج من غرضٍ إلى غرضٍ هو المقصود، وتصوير معنى ما صدر منهم من الاستهزاء، وأنه نتيجة التكذيب المسبب عن الإعراض، فالفاء في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ عاطفةٌ كما مر، وفي قولهم: ﴿فَسَيَاتِيهِمْ﴾ سببيةٌ فصيحة، لأن مدخولها وعيدٌ للمستهزئ، والوعيد مسبوقٌ بحصول الاستهزاء، ولذلك قدر: "فقد خف عندهم قدره، وصار عرضةً للاستهزاء والسخرية".


الصفحة التالية
Icon