كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن: ١]، ويقال: استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن الاستماع جارٍ مجرى الإصغاء)، فيه نظرٌ، لأن السمع في الحقيقة: إدراكٌ بحاسة السمع، وهو أيضاً مما لا يجوز على الله تعالى حقيقةً. ولما استعمل هذا في مطلق الإدراك كذلك ذلك، وعليه كلام القاضي: الاستماع: الذي بمعنى الإصغاء عبارةٌ عن السمع الذي هو لمطلق إدراك الحروف والأصوات. نعم، لو لم يأت بالتعليل كان يحتمل كلامه أولاً أن السامع والسميع مما أذن فيهما الإطلاق على الله تعالى، وورد في أسمائه الحسنى فجريا لذلك مجرى الحقيقة في مطلق الإدراك، بخلاف المستمع الذي يعطيه معنى ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾. قال الإمام في "لوامع البينات": لفظ السامع والسميع موضوعٌ في اللغة لهذا الانكشاف والتجلي، فلما وردا في حق الله تعالى اعتقدنا بثبوت جنس هذا الانكشاف، لا نوعٍ منه، لأن الانكشافات الحاصلة لله تعالى بالنسبة إلى انكشافات العبيد كنسبة ذاته المقدسةً إلى ذواتهم، ولما كان لا مشاركة بين الذاتين إلا في الاسم، فكذا القول في الانكشافين. والعمدة أن الحاصل عند عقول الخلق من معاني صفات الله تعالى خيالاتٌ ضعيفةٌ، ورسومٌ خفيةٌ، جلت صفاته عن مشابهة صفات المحدثات، وتقدست صمديته عن مناسبة الممكنات.
قوله: (والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية)، يعني: كما أن النظر تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، كذلك الاستماع: استعمال حاسة السمع نحو المسموع التماساً لسماعه، كالإصغاء، والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon