بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأنّ نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. فإن قلت: لم جمع الضمير في (مِنكُمْ) و (خِفْتُكُمْ) مع إفراده في (تَمُنُّهَا) و (عَبَّدتَّ)؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله: (إِنَّ الْمَلَأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص: ٢٠] وأما الامتنان فمنه وحده، وكذلك التعبيد.
فإن قلت: "تِلْكَ" إشارة إلى ماذا، و (أَنْ عَبَّدْتَ) ما محلها من الإعراب؟ قلت: (تِلْكَ) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في إرادة الصيانة قلنا: هو كالتتميم، لأن التتميم هو: تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغةً، أو صيانةً عن احتمال المكروه. قال أبو الطيب:

وتحتقر الدنيا احتقار مجربٍ يرى كل ما فيها- وحاشاك- فانيا
وتحريره: أنه لما قال: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾ وأتى بهمزة التقرير على سبيل التوبيخ، ورتب عليه قوله: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾ كما قررناه، أي: إني ربيتك، وأحسنت إليك لتفعل ما تقر به عيني، وتشكر إحساني إليك، لما تقرر في النفوس أن شكر المنعم واجب، فعكست القضية وقابلتها بالكفران؟ أجاب عليه السلام بقوله: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾، يعني: سلمت أن شكر المنعم واجبٌ، وأني عكست المجازاة، لكن أين النعمة؟ فإن تلك التربية التي مننت بها علي كانت مسببةً عن تعبيد قومي، فهي جديرةٌ بأن تجازى بتلك المجازاة، وإليه الإشارة بقوله: "نعم، فعلتها مجازياً لك، تسليماً لقوله: لأن نعمته عنده كانت جديرةً بأن تجازى بذلك الجزاء"، والله تعالى أعلم.
قوله: (﴿تِلْكَ﴾ إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاء مبهمة)، يعني: تصور نبي الله عليه السلام قوله: ﴿نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أنها نقمةٌ، فتكون خصلةً شنعاء، فأشار إليها، وجعلها مبتدأ، وأخبر عنها، ثم بين عنها كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون هذا إشارةً إلى غير الأخ.


الصفحة التالية
Icon