وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله (أَطْمَعُ) ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأنّ أثرها يتبين يومئذ، وهو الآن خفي لا يعلم.
[(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ* وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ* وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ* وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ* وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)].
الحكم: الحكمة، أو الحكم بين الناس بالحق. وقيل: النبوّة، لأنّ النبي ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله. والإلحاق بالصالحين: أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. ولقد أجابه حيث قال: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة: ١٣٠].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما هي إلا معاريض كلام)، سبق تحقيقه في أول البقرة.
قوله: (ويدل عليه قوله: ﴿أَطْمَعُ﴾ ولم يجزم)، أي: يدل على أن استغفار إبراهيم عليه السلام كان لمجرد التواضع، لا لطلب الغفران عن الذنوب، لأنه لو كان طلباً للغفران كان الواجب الجزم في الطلب، لا الظن والرجاء. قال الإمام: هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا، حيث نقول: لا يجب على الله شيءٌ، وأنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
قوله: (أو يجمع بينه وبينهم)، عطفٌ على: "أن يوفقه لعمل ينتظم به"، وكلا الوجهين حسنان، لكن الأول أوفق لتأليف النظم، لأن قوله: ﴿هَبْ لِي حُكْمًا﴾: طلبٌ للعلم