دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه» (فَلَيَعْلَمَنَّ الله) بالامتحان (الَّذِينَ صَدَقُوا) في الإيمان (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه. فإن قلت: كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت: لم يزل يعلمه معدومًا، ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد، والمعنى: وليتميزن الصادق منهم من الكاذب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لم يَزَلْ يَعلمُه مَعدومًا ولا يَعلمُه موجودًا إلا إذا وُجِدَ)، الانتصاف: هذا يُوهِم مَذهبًا فاسدًا، وهو أنَّ العلمَ بالكائن غيرُ العلمِ بما سيكون، والحقُّ أنَّ علمَ اللهِ واحدٌ يتعلَّق بالموجودِ، زمانَ وجودِه وقبلَه وبعدَه على ما هو عليه. وفائدةُ ذِكْرِ العلمِ التَّنبيهُ بالسَّبب على المُسبِّب، وهو الجزاء؛ أي: لَيَعلَمَنَّهم فلَيُجازِيَنَّهُم بسَبب علمِه فيهم، هذا هو الوجهُ الثاني في الجوابِ.
وقال الإمام: عِلْمُ اللهِ صفةٌ يظهرُ فيها كلُّ ما هو واقع، فقَبْلَ التَّكليفِ كان اللهُ سبحانه وتعالى يعلمُ أنَّ زيدًا سيُطيعُ وأنَّ عمرًا سَيعصي، ثمَّ وَقْتَ التَّكليفِ والإتيانِ يعلمُ أنه مطيعٌ والآخَرَ عاصٍ، وبعدَ الإتيانِ يعلمُ أنّه أطاعَ والآخَرَ عَصى، ولا يتغيَّرُ علمُه في شيءٍ منَ الأحوالِ، وإنّما المتغيٍّرُ المعلومُ، ويتبيَّن هذا بمثالٍ [منَ الحِسِّيّاتِ]- ولله المثلُ الأَعلى- وهو أنَّ المرآة الصَّقِيلةَ إذا عُلِّقت قُوبِلَ بها جهةٌ، فعَبَر عليها زيدٌ وعليه ثوبٌ أبيضُ، ثم عمروٌ وعليه ثوبٌ أصفرُ، فتَشكّلا فيه على حَسْب ما هُما عليه، فهل يُتصوَّر أنَّ المرآة من كَونها حديدًا أو مدورًا أو صَقِيلاً اختَلفت، بل يُقطع أن المتغيِّرَ الخارجُ، بل علمُ الله أعلى وأجلُّ، فإنَّ المرآة مخلوقةٌ، وعِلْمُ الله قديمٌ.
وقال مُحيي السُّنة: ولَيُظهرنَّ اللهُ الصادقينَ من الكاذبينَ، حتى يُوجِدَ مَعلُومَه؛ لأنَّ الله تعالى عالمٌ بهم قَبل الاختبارِ.


الصفحة التالية
Icon